شهد المذهب الزيدي في شمال اليمن تحولات عميقة وهامة في هيكل السلطة الدينية والسياسية، وفق مقال تحليلي نشره الباحث سعيد بكران في مؤسسة اليوم الثامن للإعلام والدراسات، وهذه التحولات تتجاوز مجرد تغييرات سطحية في الألقاب أو المناصب، لتصل إلى إعادة تشكيل فلسفية جوهرية لمفهوم السلطة الزيدية التقليدية.
فبينما كان الإمام الزيدي تاريخيًا يجمع بين القيادة الدينية والسياسية مع اشتراط الاجتهاد العلمي والمحاسبة المجتمعية، أصبح التركيز اليوم منصبًا على الولاء المطلق للزعيم، وتحولت السلطة من منصب يرتبط بالكفاءة العلمية والاجتهاد الفقهي إلى قيادة مركزية تُعرف بـ"المرشد الثوري"، يُمنح فيها القائد صلاحيات واسعة بلا رقابة، وتُصبح القرارات السياسية والدينية مرهونة بولاء الأتباع أكثر من أي اعتبار اجتهادي. هذا التحول يعكس تغيّرًا جوهريًا في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، حيث يُصبح الولاء الشخصي للزعيم معيارًا للشرعية بدلًا من التقاليد الفقهية والتاريخية التي كانت تشكل أساسًا للسلطة الزيدية التقليدية.
تحولات جوهرية
وعلى مدى قرون طويلة، مثّل الإمام الزيدي في شمال اليمن رمزًا للسلطة الدينية والسياسية في آن واحد، حيث كان يُنظر إليه كقائد يُشترط فيه الاجتهاد الفقهي والنزاهة والقدرة على اتخاذ القرارات العادلة، مع خضوعه للمساءلة من المجتمع والأطر الدينية التقليدية. هذا النظام أتاح وجود نوع من الرقابة الشعبية والدينية على الحاكم، وحافظ على توازن بين السلطة الدينية والالتزامات المجتمعية.
غير أن الباحث سعيد بكران يشير إلى أن هذا النموذج التقليدي بدأ يتآكل تدريجيًا، ليحل محله ما يُعرف اليوم بـ المرشد الثوري . في هذا النموذج الجديد، تُمنح الزعامة للمرشد صلاحيات واسعة مطلقة في التوجيه والقيادة، بلا مساءلة حقيقية أو رقابة خارجية، ويصبح الولاء الشخصي له هو المعيار الأساسي للشرعية.
ويستمد هذا النموذج بعض عناصره من تجارب أيديولوجية إقليمية في الإسلام السياسي، ما يحوّل السلطة من وظيفة قائمة على الاجتهاد الفقهي والتقاليد الزيدية إلى أداة مركّزة في يد قائد واحد، تتحكم في كل مفاصل الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية.
أبرز أبعاد التحول
شهد المذهب الزيدي تحولات جذرية في هيكل السلطة، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أبعاد رئيسية مترابطة تعكس التغيير في طبيعة الزعامة وأثرها على المجتمع والسياسة، أولها الإمام مقابل المرشد، حيث تحوّلت فكرة الإمامة المجتهدة، التي كانت تعتمد على الكفاءة الفقهية والقدرة على الاجتهاد والنزاهة في الحكم، إلى سلطة مطلقة للمرشد الثوري. لم يعد معيار القيادة مبنيًا على العلم أو المعرفة الدينية، بل على الولاء الشخصي للمشروع السياسي السائد، ما يحوّل الامتيازات من واجب ديني واجتماعي إلى أداة للسيطرة السياسية.
وثانيًا تضاؤل الاجتهاد والتعددية، فمع هذا التحول، أصبح الانغلاق على قيادة واحدة هو السمة السائدة، ما أضعف آليات المنافسة والرقابة الداخلية التي كانت قائمة تاريخيًا ضمن إطار المذهب الزيدي. أدّى هذا التركيز إلى تمركز السلطة الدينية والسياسية في يد فرد واحد أو فئة محددة، وأضعف أي قدرة مجتمعية على مساءلة القائد، كما حدّ من فرص الاجتهاد الفقهي المستقل الذي كان ميزة للمذهب.
فيما البعد الثالث تركز على تغيير وظيفة السلطة في المجتمع، فالسلطة لم تعد مقتصرة على الإشراف الديني والاجتماعي، بل امتدت لتشمل التحكم بالمناهج التعليمية والسياسات الثقافية والإعلامية، ما أسهم في تشكيل الفكر العام للمجتمع الزيدي وفق مصالح القيادة المركزية. أصبح الولاء الشخصي للزعيم معيار الشرعية والالتزام، متفوقًا على الولاء للمذهب أو للتقاليد الدينية، وهو ما يعكس تحول السلطة من وظيفة توجيهية وحامية للقيم الدينية إلى أداة للتحكم السياسي والاجتماعي.
ويرى الباحث السياسي سعيد بكران في مقالة التحليلي أن هذه الأبعاد الثلاثة مجتمعة ترسم صورةً لمجتمع زيدي يشهد تغيّرًا عميقًا في نمط القيادة والشرعية، حيث أصبح الولاء السياسي الشخصي محور العلاقة بين القائد والمحكوم، مع تأثير مباشر على الثقافة والتعليم والفكر المجتمعي.
انعكاسات على المجتمع والسياسة
تشير التحولات العقائدية التي شهدها المذهب الزيدي إلى أن المجتمع، رغم جذوره التاريخية العميقة في الاجتهاد والمشاورة، أصبح يواجه اليوم هيمنة أيديولوجية متزايدة تحدّ من قدرته على مساءلة القادة ومراقبتهم. هذا التمركز للسلطة يؤدي إلى خلق واقع سياسي مركّز، حيث تتجمع السلطة الدينية والسياسية في يد المرشد الواحد، ويصبح اتخاذ القرارات بعيدًا عن آليات التدقيق والمراجعة المجتمعية التقليدية.
وبحسب الباحث بكران، فإن هذا النموذج الجديد يعزز سلطة الزعيم ليس فقط على المستوى السياسي، بل يمتد إلى التحكم في الخطاب الديني والثقافي، ويحد من مساحة التعبير المستقل والتفكير النقدي داخل المجتمع الزيدي. كما يؤدي هذا التمركز إلى إضعاف مؤسسات المجتمع المدني والتعليمية، حيث يتم توجيه المناهج والأنشطة الثقافية وفق أولويات القيادة، ما يرسخ الولاء الشخصي للزعيم على حساب الولاء للمذهب أو للقيم الدينية والاجتماعية التقليدية.
في النهاية، يعكس هذا التحول تغيرًا جذريًا في علاقة المجتمع بالسلطة، من مجتمع قادر على المشاركة والمساءلة إلى مجتمع يخضع لهيمنة مركزية قوية، ويصبح الفضاء العام فيه أقل قدرة على الاستقلالية والتنوع الفكري، مع تبعات طويلة الأمد على السياسة والثقافة والاجتماع في مناطق النفوذ الزيدي.
قراءة مستقبلية
يشير الباحث سعيد بكران إلى أن هذا التحول في هيكل السلطة الزيدية ليس نهائيًا أو مطلقًا، فالتاريخ الزيدي يمتلك آليات اجتهادية مرنة يمكن أن تتيح إعادة صياغة السلطة وإعادة التوازن بين القيادة والضوابط المجتمعية مستقبلاً. إلا أن المرحلة الراهنة تُظهر إحكام قبضة القيادة على كل مفاصل السلطة الدينية، مما يفرض تحديات كبيرة على الحراك الاجتماعي والسياسي داخل المجتمع الزيدي، ويجعل الرقابة الشعبية أو المجتمعية شبه مستحيلة.
هذا الواقع يعكس مدى تأثير التمركز السلطوي على الثقافة والسياسة والتعليم، ويضع المجتمع أمام اختبار حقيقي في القدرة على استعادة مساحة الاجتهاد والمساءلة. فتحول الزيدية من نموذج "الإمام المجتهد" إلى "المرشد الثوري" لا يقتصر على تعديل الألقاب أو المناصب، بل يمثل انقلابًا جوهريًا في فلسفة الحكم ذاته: من قائد خاضع للمساءلة والرقابة إلى زعيم يُطاع بلا نقاش، وتصبح الشرعية مرهونة بالولاء الشخصي للزعيم بدل الالتزام بالقيم الفقهية والمبادئ الدينية التقليدية.
هذه التحولات تُعد اختبارًا حقيقيًا للمجتمع الزيدي ولقدرة مؤسساته على الموازنة بين الولاء السياسي والوفاء لتقاليد الاجتهاد الديني، كما تحدد شكل العلاقة بين السلطة والمجتمع في المستقبل، وتطرح تساؤلات كبيرة حول قدرة المجتمع على حماية مساحة الاجتهاد والتنوع الفكري في ظل القيادة المركزة.