كنت قبل ساعاتٍ أتحدث مع سياسي يمني طاعنٍ في السن، سألته مازحًا إن كان لا يزال يتابع الأخبار، وكيف يرى المشهد السياسي في المنطقة.
ابتسم وقال:"يا بُني، نحن أكبر منكم سناً، وعاصرنا أنظمة كثيرة. منطقة الشرق الأوسط تشبه حارة قديمة في صنعاء، تبعد عن باب اليمن قرابة ربع ساعة بـ(باص تاتا)."
ثم بدأ يحكي:"كان صاحب الباص يأخذ الناس كل صباح إلى السوق، وفي الظهيرة يعيدهم، لكن الباص ما كان يمرّ يومًا بلا مشكلة: مرة ترتفع حرارته، ومرة "يبنشر" التاير، ومرة البطارية تفصل.
وصاحب الباص، رغم أنه بخيل وأناني، يرفض أن يسامح أحدًا لو نقص عليه ريالاً واحداً من الأجرة، لكنه حين يتعطل الباص يطلب من الركّاب أن "يدفّوه" حتى يتحرك من جديد.
والعجيب أن الركاب كانوا يدفعون ويساعدون كل مرة، وكأن الباص قدرهم الذي لا يُستغنى عنه.
فلو قلت لأحدهم: "ولِمَ كل هذا التعب؟" لنهرك قائلاً: "هذا باص الحارة، وصاحبه رجل كبير له فضل علينا!"
مع أنه – كما قال السياسي مبتسمًا – "ولا عمره حلّ مشكلة!"
سألته بدهشة: "وكيف ظلوا يثقون به؟"
قال: "يا ولدي، في بعض الحارات رجال كبار الجثة، يلبسون كوتًا أسود ويحملون جنبية، والناس تناديهم (يا عاقل) احتراماً للسن، لا للحكمة. فيظنّون أنه ما دام كبيراً، فهو العاقل الذي يجب أن يُطاع."
ثم أردف:
"صاحب باص تاتا كان يفرض على الناس أن يدفعوا له كل أسبوع خمسة ريالات لإصلاح الباص، فوق الأجرة اليومية، ومع ذلك لم يتغير شيء: كل صباح يتعطل، ويدفّه الناس، وفي المساء يعود نصف الطريق فقط، والبقية يمشونها على أقدامهم. لكن الجميل أن سكان الحارات الأخرى يساعدون في الدفع أيضاً!"
وبعد فترة، لما رأى أن الشغلة لا تدرّ عليه مالًا كافيًا، قرر أن يفتعل المشاكل بين الناس. صار يفتن بين الجيران، فإذا وقعت خصومة، يتدخّل للإصلاح مقابل أجر من الطرفين، حتى ظنّ الجميع أنه رجل الخير والعقل والحكمة.
إلى أن جاء يوم، ووقف أحدهم في السوق وصاح:
"يا ناس! هذا صاحب الباص هو سبب مشاكلنا كلنا، يفتن بينّا ليأخذ فلوسنا!"
ومنذ تلك اللحظة، قاطعوه وقاطعوا باصه.
راح يصيح فيهم: "خافوا الله، أنا كبيركم، أنا عاقل الحارة!"
فقال له أحدهم، وهو في طريقه إلى دورة المياه:
"يا شيخ روح بلا كبير بلا وجع راس، ما شفنا منك غير العطل والدف!"
وبعد شهر، وجده أهل الحارة مستظلًا بجدار المسجد، يقول حزينًا:
"ياريت سمعت كلامكم، واحترمت جيراني وسكان الحارة، قبل ما أوصل لهذا الحال…".
#صالح_أبوعوذل