بخطاب طويل نشره القيادي الإخواني حميد الأحمر على صفحته في منصة "إكس" تحت عنوان "اليمن تعز"، حاول الأخير إعادة توجيه مسار الغضب الشعبي الناجم عن اغتيال مديرة صندوق النظافة والتحسين في تعز، أفتهان المشهري، من مطلب قضائي واضح (القبض على الجناة ومحاسبتهم) إلى سجال سياسي يتهم فيه خصومًا محليين ودوليين بتقاعس عن تحرير تعز أو بتسييس الملف. ويخفي هذا الخطاب أكثر من هدف؛ فهو يبدو تهدف أولاً إلى تشتيت الاهتمام عن أصابع الاتهام الموجهة إلى مجموعات مسلحة محسوبة على تيارات حزبية، وثانياً إلى استعادة زمام المبادرة الخطابية عبر تحميل جهات خارجية ومحلية مسؤولية إخفاقات أمنية وسياسية.
تناول حميد الأحمر في مقاله تاريخ وموقع مدينة تعز بوصفها "بوابة التحرير" وركنًا أساسياً في المشروع الجمهوري، وهي نقاط صحيحة تاريخيًا وسياسيًا. لكنه أسرع في تحويل الحديث إلى مهاجمة أطراف عدة: الحكومة الشرعية، التحالف، وأطراف محلية وصفها بأنها "خذلت تعز" أو "استولت على التعزيزات والدعم" وزاد في ذلك بلهجة اتهامية تجاه عملاء خارجيين.
النص احتوى أيضاً على سطر رحيم وأمنيات للمرحومة أفتهان، لكنه لم يَمتنع عن القفز إلى اتهامات واسعة الذاتية بحق خصومه السياسيين، متهمًا إياهم بـ"الاستيلاء على التعزيزات وتحويل الميناء إلى منفذ تهريب يخدم الحوثي" وبتسييس ملف الاغتيال لاستثماراته السياسية.
هذه المزجية بين التعاطف الظاهري مع الضحية وبين محاولة توظيف القضية سياسياً أثارت ردود فعل غاضبة من ناشطين وحقوقيين رأوا فيها محاولة لطمس متورطين محليين عبر فتح قضايا جانبية.
انتقد متابعون أن حميد الأحمر قد حاول تحويل الاهتمام عن الشق الجنائي للقضية (إلقاء القبض على الجناة ومحاسبتهم) إلى سجال أوسع حول من أخلّ بواجبات التحرير أو من لم يقدّم الدعم الكافي لقوات معيّنة. وفي هذا السياق تردُّد مزاعم متداولة على ألسنة قيادات إخوانية عبر السنوات عن "عرقلة" من قبل الفصائل الأخرى للتحرير، بينما الواقع الميداني وشهادات قيادات ومسؤولين عسكريين وسياسيين تشير إلى أن ساحات المواجهة والتحرير شهدت مشاركة فصائل متعددة كان لها دور في جبهات الساحل الغربي أو في محافظات أخرى.
المُلحّ هنا أن ملف اغتيال المشهري يختلف بطبيعته عن سجالات "من حرر ماذا"؛ فالمصلحة الوطنية تقتضي فصل التحقيق الجنائي عن الاستقطابات السياسية، والسعي الجدي لدى السلطات لإغلاق ملف الاغتيال بالكشف عن مرتكبيه ومحاسبتهم علنًا.
جاءت في مقاله اتهامات ترددت سابقًا لدى قيادات في تيارات إسلامية بأن التحالف العربي بقيادة السعودية "وقف" دون مواصلة تحرير تعز أو أنه لم يقدّم دعماً كافياً لقوات محلية. لكن هذه الرواية تُقابلها روايات ميدانية وأخرى رسمية مفادها أن توزيع التعزيزات والميزانيات والتحركات العسكرية تُقرّر ضمن موازين معقدة ترتبط بخطط عسكرية وإستراتيجية وبتفاهمات سياسية بين الحكومة والتحالف، وليس ببساطة "احتكار" حزب واحد.
إن طرح حميد الأحمر لمسألة "الخذلان" بهذه الطريقة يَغلف اتهامات ليست مُدعّمة بأدلة علنية في نصه، ويضع القارئ أمام استنتاجات واسعة من دون تقديم معطيات موثقة حول صرف الأموال أو جهات استلام التعزيزات وتحويلها.
أبرز ما يلاحظ في توقيت ومضمون المقال أن حميد الأحمر يسعى لتقليل الضوء عن الاتهام الشعبي الذي يربط مساحات من الفوضى الأمنية أو وجود مجموعات مسلحة متهمة بالضلوع في جريمة الاغتيال، ويحوّل الجدل إلى نقاش أيديولوجي ــ تاريخي عن من "خذل" تعز. هذه الاستراتيجية الإعلامية ليست جديدة: تحويل قضية جنائية محلية إلى سجال وطني يخفف الضغوط الداخلية على الذين قد يكونون مرتبطين ميدانيًا أو سياسيًا بالأحداث.
ردود الناشطين والنقابيين والمواطنين في تعز جاءت سريعة وواضحة: القضية قضية عدل وقضية أمن عام، والرد يجب أن يكون ملاحقة الجناة ومحاكمة المتورطين بغض النظر عن انتماءاتهم الحزبية أو القيادية. الاتهامات العامة وتحويل البوصلة إلى سجالات حول "من حرر ماذا" لا تخدم مطلب العدالة الذي يرفعونه.
الملاحظ أن قيادات أحزاب وأفرادًا نافذين حين يرفعون أصواتهم عبر منصات عامة عليهم واجب توخي الحذر في معالجة قضايا حساسة تتعلق بجرائم، لأن أي محاولة لاستثمار قضية اغتيال أو قتل في صراعات نفوذ ستنعكس سلبًا على مسار التحقيقات وتزيد من احتقان الشارع. وبدلًا من ذلك، يفترض أن تدعو القيادات إلى تعاون أمني كامل مع الجهات القضائية وتعهدات علنية بعدم التدخل أو حماية المتهمين.
موقف حميد الأحمر في مقاله قد يُفهم كجزء من مناورة إعلامية وسياسية تهدف إلى حماية مظاهر نفوذ محلي وتهدئة الغضب بتوجيهه نحو خصوم سياسيين. لكن ضاغط الشارع في تعز، وجرح ذوي الضحية، والمطالب الحقوقية والقضائية كلها تُصرّ على أن لا بدّ من فصل التحقيق الجنائي عن الحسابات السياسية.
الاستنتاج الواضح أن أي محاولة لتمييع القضية أو تحويلها إلى مضمار سجالي ستواجه رفضًا شعبيًا واسعًا ما لم تُقدّم له أدلة عملية تُثبت ما يُزعَم. والسبيل الوحيد لتهدئة الوضع وإعادة الثقة هو إجراء تحقيق شفاف وسريع، وإحالة المتورطين للعدالة، وإعلان مؤسساتي واضح يفصل بين المسار القضائي والمناكفات السياسية.