جاء توجه البنك المركزي اليمني نحو الاعتماد على إصدارات أدوات الدين المحلي في هذه المرحلة الحرجة نتيجة معضلة مزدوجة، فمن جهة، هناك تعثر في دفع المرتبات الحكومية لعدة أشهر وما يترتب عليه من ضغوط اجتماعية واقتصادية متنامية؛ ومن جهة أخرى، هناك رفض واضح للجوء إلى خيارات تضخمية مثل السحب على المكشوف أو الإصدار النقدي الجديد، لما تحمله من مخاطر مباشرة على الاستقرار النقدي وسعر الصرف. وفي ظل توقف صادرات النفط وتراجع تدفقات النقد الأجنبي إلى جانب ضعف كفاءة تحصيل الايرادات بسبب تعقيدات المشهد السياسي وتأثير قوى النفوذ، وجد البنك المركزي نفسه مضطراً لاختيار هذا المسار بوصفه الأداة الأقل خطراً والأكثر اتساقاً مع نهج الإصلاح النقدي.
إعلان البنك عن طرح سندات حكومية طويلة الأجل (3 سنوات) بعائد سنوي 20% وأذونات خزانة قصيرة الأجل (1 سنة) بعائد 18% يمثل انتقالاً تدريجياً نحو استخدام أدوات السوق (Market-based Instruments) كوسيلة لإدارة السيولة (Liquidity Management) بدل الاعتماد على التمويل التضخمي، الهدف المباشر من هذه الخطوة هو امتصاص السيولة الفائضة (Excess Liquidity Absorption)، وتحويلها إلى التزامات حكومية رسمية بعوائد محددة، وهو ما يسهم في تقليص حجم الكتلة النقدية المتاحة للمضاربة في سوق الصرف.
على الصعيد الإيجابي، تعكس هذه الإصدارات إشارة محلية مهمة للأسواق بأن البنك المركزي ملتزم بالاستقرار النقدي ويبحث عن أدوات بديلة للطباعة والسحب على المكشوف، وهو ما يعزز الثقة لدى البنوك والتجار والمستوردين، أما الحديث عن خلق منحنى عائد (Yield Curve) أو تأسيس سوق دين محلية متكاملة فيظل مبكرا في السياق اليمني، لغياب المقومات الأساسية كسوق ثانوية نشطة وقاعدة مستثمرين متنوعة، ومع ذلك، يمكن النظر إلى هذه الخطوة كبداية لتشكيل مرجعية أولية لتسعير المخاطر محليا، وتجربة أولية لتطوير أدوات الدين العام في بيئة تعاني من ضعف شديد في الموارد والسيولة
غير أن هذه السياسة لا تخلو من تحديات ومخاطر، فأسعار الفائدة المرتفعة (18–20%) قد تؤدي إلى ما يعرف بظاهرة مزاحمة الاستثمار الخاص (Crowding-out Effect)، حيث تتجه البنوك ورؤوس الأموال إلى الاكتتاب في أدوات الدين باعتبارها مضمونة وعالية العائد، على حساب تمويل النشاط الإنتاجي، كما أن تراكم التزامات خدمة الدين (Debt Service Burden) قد يفاقم الضغوط على المالية العامة مستقبلاً إذا لم تقترن هذه السياسة بزيادة فعلية في الإيرادات السيادية، وخاصة في ظل غياب عائدات النفط.
ان نجاح هذا التوجه يظل مرهونا بعدة عوامل مترابطة، فربط الإصدارات بخطة إصلاح مالي وهيكلي (Fiscal and Structural Reforms) يمثل الأساس، بما يشمل تحسين كفاءة تحصيل الإيرادات العامة وضبط النفقات. كما أن تحقيق هدف المزادات يتوقف على قدرتها على إحداث تعقيم فعلي للسيولة (Effective Sterilization) لا مجرد تدوير للكتلة النقدية داخل السوق. إلى جانب ذلك، فإن الالتزام بالشفافية والإفصاح الدوري عن نتائج المزادات وحجم الاكتتابات يظل عنصرًا جوهريًا لتعزيز ثقة الفاعلين المحليين والدوليين والحد من الشائعات.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال أن الوضع المالي العام للدولة لن يشهد تحسنًا جوهريا دون تغطية حقيقية لعجز الموازنة، سواء عبر دعم دولي مباشر أو من خلال عودة صادرات النفط والغاز باعتبارها المصدر الأكثر استدامة للعملات الصعبة. كما أن تحرير الدولار الجمركي أصبح ضرورة حتمية لإعادة مواءمة الإيرادات مع المتغيرات النقدية والاقتصادية، وتقليص فجوة العجز، بما يسهم في استدامة الاستقرار المالي على المدى المتوسط والطويل. وهنا يجب التأكيد بأن أدوات الدين المحلي وحدها ليست حلاً نهائيا، وإنما أداة مرحلية ضمن حزمة أوسع من الإصلاحات والدعم الخارجي وتفعيل الموارد السيادية، وهي وحدها الكفيلة بوضع الاقتصاد على مسار استقرار حقيقي ومستدام
في المحصلة، تمثل هذه الإصدارات خطوة متقدمة نحو تطوير أدوات السياسة النقدية وتأكيد التزام البنك المركزي بتجنب التمويل التضخمي. لكنها تظل أداة مؤقتة ومرحلية، ولن تكتسب استدامة إلا إذا اقترنت بزيادة حقيقية في الإيرادات العامة، وإلا تحولت مع مرور الوقت إلى التزام مالي ثقيل يحد من قدرة الدولة على المناورة مستقبلاً
فارس النجار
المستشار الاقتصادي في مكتب رئاسة الجمهورية اليمنية