في بلدٍ كاليمن، لا تموت الشعوب بالرصاص وحده، بل بالوهم، بالخوف، بالإيحاء الذي يزرعه صُنّاع السموم الحقيقيون في عقول الناس وقلوبهم.
نحن لا نموت لأن السم بلغ أجسادنا، بل لأن عقولنا امتلأت برعبٍ مصطنع، وصورٍ مشوّهة، وخصوماتٍ مفتعلة، ودماءٍ تُسفك على مسرحٍ كُتبت أحداثه في غرفٍ بعيدة.
هناك حكاية رمزية تختصر حال اليمنيين اليوم:
رجلان صُنّاع علاج، كلٌّ منهما تحدّى الآخر أن يصنع له سُمًّا قاتلًا.
أحدهما انشغل بصنع مكوّنات الموت الحقيقي، والآخر بدأ يدقّ الماء في “المدقّ” بقوة، حتى رجّت القرية بصوته المدوي.
لم يكن يدقّ إلا الماء، لكن صدى فعله أشاع الرعب، وأقنع غريمه أن خلف هذا الصوت قوة خارقة ومصيبة قادمة.
فجاء يوم التحدي، فشرب كلٌّ منهما ما صنعه الآخر، فمات من شرب الماء المدقوق، وبقي من شرب السم، لأن الأول مات بخوفه لا بالسم.
وهكذا نحن في اليمن، نموت كل يومٍ برعب الإيحاء. تمتلئ عقولنا بفكرة أن هذا الطرف شيطان، وأن الآخر عميل، وهذا خائن، وذاك القائد مشروع كارثة.
تسقينا وسائل الإعلام، ومنابر الأحزاب، وخطابات الكراهية على شاشات التواصل، جرعات السمّ النفسي حتى شُلّ فينا التفكير.
وكل هذا، في النهاية، يُدار من مكانٍ واحد، من عقلٍ واحد، من غرفةٍ واحدة، تتحكم بكل “اللاعبين”.
هؤلاء الذين يظهرون أعداءً في العلن، قد يجلسون في الغرف المغلقة ضاحكين، شركاء في تقسيم وطنٍ وتمزيق شعب.
العدو لم يعد من يرفع عليك السلاح فقط، بل من يضع فيك الوهم، ويزرع حولك الأسوار، ويقنعك بأنك محاصر، مهدَّد، بلا خيار.
نحن لا نحتاج إلى المزيد من الخنادق، بل إلى نوافذ نرى بها الحقيقة. نحتاج أن نسأل: من يدير مَن؟ من يقاتل مَن؟ ولماذا؟ ومن المستفيد؟
من حق هذا الشعب أن يعرف من “يُدقّ الماء” ليرعبه، ومن يصنع له السمّ الحقيقي ليموت وهو يصفّق له.
كفى عبثًا، فاليمن لا تحتمل المزيد من التجارب السامة.
يا شعبًا كان يُضرَب به المثل في الثبات، بيومٍ وليلة تصبحون شيعة، وفي اليوم التالي سُنّة، ثم جمهوريين، فإماميين،
ثم تركضون خلف الإيرانيين، وتصفقون للأتراك، وتتباهون بالخليجيين!
ما الذي أصابكم؟!
هل بعتم عقولكم في مزاد السياسة؟ أم سلّمتم قلوبكم لمن يصرخ أعلى؟
يا قوم، أنتم لستم ملعبًا لكل لاعب، ولا سلعةً في سوق المذاهب!
منذ متى صار الإيمان عندكم يتبدّل مع موجةٍ إعلامية؟
ومنذ متى صار الانتماء للوطن يُقاس بعدد التغريدات والولاءات العابرة؟
بالأمس كنتم إخوة، واليوم تتناحرون كأعداء، وغدًا — حين تُصفّى الحسابات —
ستعودون أحبابًا تتباكون على وطنٍ لم تُبقوا منه حجرًا على حجر!
أين نخوتكم؟ أين يمنكم؟
هل أصبحتم نسخًا مكررة من عقول الآخرين؟
تارةً تتكلمون بلسان طهران، وتارة بعقل أنقرة، وتارة بأموال الخليج!
يا ناس، اليمن لا يريد منكم لا تشيّعًا ولا تسنّنًا ولا جمهورًا ولا إمامة،
اليمن يريد أن تكونوا يمنيين حقيقيين فقط.
ارجعوا إلى عقولكم يا ناس!
الوطن ليس بحاجة إلى شعارات، بل إلى أفعال.
ابدأوا بإصلاح وطنكم، ومن يعمل لأجله فساندوه وسهّلوا له طريقه.
شجعوا كل مدرسة تُبنى، وكل طريق تُشق، وكل مستشفى يقوم.
لا تهاجموهم، بل ساندوهم، فالوطن لا يقوم إلا بتكاتف أبنائه.
كفى تخوينًا، وكفى مزايدات،
فالذي يحب وطنه يبرهن بعمله لا بكلامه.
اليمن لا تحتاج إلا صدقكم ووحدتكم، والباقي سيأتي من الله.
عودوا إلى يمنكم قبل أن يصبح مجرد اسمٍ في خرائط التاريخ، وقبل أن يكتب عنكم أولادكم يومًا:
"كان هنا وطن… ضاع بين الولاءات."