المقاهي ليست أماكن لاحتساء الشاي والقهوة فقط، بل كيانات فاعلة سياسيا وثقافيا واجتماعيا، وتمثل حكايات وذاكرة تاريخية لحياة المدن.
ويذكر بأن المقاهي لعبت دوراً ثقافيا هاماً في المدن الكبرى مثل باريس، وروما، ولندن، كما لعبت أدوراً ثقافية هامة في تاريخ الأفكار، والمدارس الفكرية والأدبية في بعض المدن العربية مثل القاهرة وبيروت .
ويعود هذا التأثير الكبير الذي تقوم به المقاهي الى أنها جزءً من الحياة الحديثة وشكل المدن الحديث التي غيرت من الحركة السياسية والاجتماعية وأصبحت في المجال العام والفضاء المفتوح .
وعدن كغيرها من المدن تأثرت بالحياة الحديثة وتشكلت فيها المقاهي وأبرز مقاهيها " السكران" الذي يقع في مديرية كريترأو في" عدن" التي تعرف بالمدينة القديمة ، حيث تجد المقهى على يمين شارع الشيخ عبد الله، وتجذبك اليه رائحة الشاي التي تفوح منه من على بعد مسافه وشكل طرازه القديم والبسيط ا الجذاب .
ويعد الجلوس على طاولة هذا المقهى المميز مكسب معنويا وتاريخا للأشخاص، حيث جلس على نفس طاولاته العتيقة الكثير من الشخصيات المختلفة طوال تاريخ المقهى لكي يحتسون الشاهي المميز الذي يصنعه ، ويعرف المقهى يطريقته المميزة لصنع الشاهي التي تجعل من كل سكان المدينة حجاج إليه بشكل يومي، حيث لا يعتدل مزاج ولا يحلو حديث مع الأصدقاء الا عند احتساءه، ويعرف هذا الشاهي باسم "العيدروسي".
مقهى السكران كفضاء ثقافي واجتماعي ومدني:
لم يقتصر دور مقهى سكران عن كونه مجرد مكان يجلس به الناس من أجل تناول الشاي وتبادل الأحاديث، بل يمتد دور هذا المكان إلى تشكيل ثقافة المواطنين واتجاهاتهم الفكرية والسياسية والأدبية، وكذلك مكان للقاءات التنظيمية وتبادل الآراء والأفكار والمهام، وملتقى للأحرار والثوار والسياسيون والفنانون والمثقفون منذ بدايته وحتى الأن ، كما أنضم الى رواده النخب الجديدة مثل النشطاء والمؤثرين ، وتحول في الفترة الأخيرة متنفس وملتقى لكبار السن ممن عاصروا تاريخه وتاريخ المدينة بشكل مقاهيها الشعبية المعروفة لديهم .
وقال مروان مفرق أحد أعضاء فرقة خليج عدن لموقع نافدة اليمن:" مقهى سكران المكان اللي أحصل فيه على مشروبي المفضل" الشاي العدني" وبنفس الوقت يعد ملتقى الاصدقاء والمساحة المريحة اللي فيها نتبادل الافكار والحديث في العديد من الامور الحياتية والاجتماعية والرياضية الى جانب النشاطات الثقافية التي اقيمت في حرمه مثل معرض عدن الأول"، مضيفا مقهى سكران ليس لشرب الشاي بل تاريخ وحياة".
كما قال القاضي قادري الفضلي لموقع نافدة اليمن:" مقهى سكران جزء من ذاكرة المدينة التي ينبغي الحفاظ عليه حتى وإن كلف الأمر دعمه من قبل السلطة المحلية فقط، أيضا هو منتدى عدني بامتياز لالتقاء كل النخب فيه ".
ياسر سكران أحد ملاك المقهى تحدث لموقع نافدة اليمن عن تأسيس هذا المقهى، وقال: " أسس جدي أبو والدي محمد عبد الله سكران مقهى سكران عام 1910م في أيام النضال والكفاح المسلح، وكانت تتم بعض اللقاءات والاجتماعات تقام في المقهى للثوار ضد الاستعمار البريطاني".
حراك اجتماعي وثقافي:
شهد مقهى سكران حراك ثقافيا كبيرا، وخاصة بعد حرب 2015، حيث أقيمت فيه عدد من الفعاليات الثقافية والاجتماعية التي جعلت من مقهى سكران قبلة للمجتمع العدني وكانت أولى هذه الفعاليات معرضاً للصور في عام 2016 حمل عنوان “ليكن 2016 عاماً لإعادة الإعتبار لعدن المدينة والإنسان والهوية”.

وحضر هذا المعرض المئات لمشاهدة الصور التي تم عرضها وكانت تحاكي القيمة والأهمية التاريخية التي حظيت بها عدن، وأبرز معالم المدينة الطبيعية والتراثية المتجذرة في عمق التاريخ والتي اكتسبتها ومازال العديد من شواهدها متجسدة وحاضرة تخالط وجدان وضمائر أبناءها.
كما أقامت وكالة التنمية والمنشئات الصغيرة والاصغر، ومؤسسة عدن لتمويل الأصغر فعالية في مقهى السكران تحت عنوان "فنجان ريادة" وذلك بمناسبة الأسبوع العالمي لريادة الأعمال لعام 2016 م.

إحياء ذكرى وفاة الفنان أبوبكر سالم:
بالتزامن مع الذكرى الرابعة لرحيله، نظم دار روشن للفن في مدينة عدن نظم جلسات شعبية فنية في المقهى لإحياء ذكرى رحيل مدرسة الغناء والفن اليمني، أبوبكر سالم بلفقيه .

وقالت مديرة الدار، صمود صالح: "إن الجلسات تهدف لتذكر إرث الراحل الكبير ومساهماته في نشر التراث الغنائي الحضرمي خصوصا واليمني عموما على مستوى العالم .
وأشارت صمود إلى أن الجلسات كانت بعنوان "من يشبهك من"، وتم تنفيذها في عدد من المقاهي الشعبية بمدينة عدن؛ تأكيدا على ارتباط موروث أبوبكر الفني بوجدان الناس والشعب.
مقهى السكران وتعزيزه لوجود النساء:
بعد أن كان زوار مقهى سكران من الرجال فقط، أصبح المقهى يستقبل النساء أيضا، في حدث نادر يحدث في مقاهي المدينة، وقد رحب ملاك المقهى بهذا التغيير ودعموه بشكل كبير.
ولكن هذا التغيير صاحبه صدام مع جماعات من الأيدولوجيات الدينية المتشددة التي لم تستحن هذا التنوع والتغيير الذي حدث للمقهى، حيث قالت مصادر محلية وشهود عيان لصحيفة عدن الغد:" أن متشددين دينيين اعتدوا على مجموعة من النشطاء الشباب من الجنسين كانوا في أحد المقاهي الشعبية بمدينة "كريتر" القديمة بعدن مساء يوم الأحد".
وقد أطلق المتشددون على النشطاء والناشطات المدنيات أوصافاً تكفيرية وشككوا في إسلامهم، وتم رشق رواد المقهى بالحجارة عند محاولتهم إنهاء هذا الاعتداء.
وذكرت المصادر:" أن المتشددين الذين اشتبكوا مع النشطاء والناشطات قالوا بأنهم ينهون عن منكر معتبرين أن الجلسة التي تجمعهم في المقهى غير مقبول شرعا".
وكان رد فعل ملاك المقهى مناهض لهؤلاء المتشددين، حيث أصدروا على أثر هذا الهجوم بيان نشر في صحيفة عدن الغد وذكروا فيه: "إننا نعتبر هذه الفعلة إساءة للمقهى وتاريخه الطويل، وإن مثل هذه التصرفات تسيء إلى عدن وإلى أبناء عدن وإلى هذه المدينة المعروف عنها بالتعايش وقبول الآخر بمختلف توجهاتهم.وإننا نحترم كل من له رأي مخالف ولكن عليه أن يعبر بأسلوب حضاري ويتكلم معنا بالتي هي أحسن ونحن أصحاب الحق الذين نقرر كيف نتعامل مع الأمور"..
وواصل ملاك المقهى استقبال النساء في المقهى والوقوف معهن، وأحدثت هذه الواقعة تغيير كبير في مفهوم المساواة بين الجنسين، ومهدت لتحول المقهى من مكان لشرب الشاي الى مكان مدني تقام به معارض وفعاليات ثقافية وفنية وزواره من الجنسيين.
وفي ذات السياق قال ياسر مالك مقهى سكران لموقع نافدة اليمن:" أن المقهى مفتوح ويرحب بالكل، والنساء ما زالوا يأتون بين الحين والأخر ونستقبلهم بترحاب كبير ".
السلطات المعنية ودورها في دعم فعاليات مقهى السكران:
تعد المقاهي الشعبية التي لها دور في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية أهمية كبيرة لأنها تشكل هوية وذاكرة تاريخية لتراث المدينة المادي والمعنوي، واستمرارها في لعب هذه الأدوار الكبيرة كفعل مكاني موثر في الحياة العامة هام وكذلك كفعل معنوي من خلال الفعاليات الثقافية والاجتماعية .
يقول مالك المقهى ياسر سكران لموقع نافدة اليمن:" بأن الفعاليات في الفترة الأخيرة توقفت عن نشاطها لكن ليس لديه علم بخصوص هذا الأمر، ربما لأنه كان هناك حراك ثقافي واختفى "
من جانبه قال خالد سلام مدير مكتب وزراه الثقافة لموقع نافدة اليمن " أن المسؤول عن هذه الفعاليات والأنشطة هو صندوق التراث والتنمية الثقافية، وموارد هذا الصندوق ضعيفة جدا لتغطية مثل هكذا فعاليات ويعود هذا الضعف الى قانون الصندوق، حيث ما يحصل من هذه الموارد يذهب الى الفنانين والمبدعين وبعض المنتديات الثقافية كمنتدى المرشدي واليابلي من سكان مدينة عدن، وتنحصر إيراداته من بعض الصناعات، وتم تقديم طلب مشروع استثنائي لمعالجة هذا القانون ".
وأضاف خالد سلام:" بأن وزارة الثقافة ميزانيتها ضعيفة جدا، وعندما نريد عمل أي نشاط نحاول أن نستمد دعم من رئاسة الوزراء والمجلس الرئاسي، مؤكدا على أن الوزارة تحاول أن تقدم دعم للمبدعين والأنشطة الثقافية".
وأشار خالد سلام:" بأن الوزارة تعمل خلال هذه الفترة على مشروع لتحريك الأنشطة الثقافية في عدن، وذلك من خلال مهرجان شتاء عدن الذي تسعى فيه الوزارة بكل جهدها مع مجلس الرئاسة على إتمامه".
استمرار هذه الأماكن في لعب هذه الأدوار الكبيرة كفعل مكاني موثر في الحياة العامة هام جدا وخاصة في ظل انتشار المقاهي الحديثة التي طغت بتأثيرها على المقاهي القديمة والتي لا تمثل اي قيمة تاريخية وتراثية للمدينة وعلى السلطات المعنية الاهتمام بها .