لم يأتِ الاتفاق الإيراني–السعودي الذي رعته الصين في مارس 2023م كهدية مجانية من السماء. وُلد قيصريًا، وكاد يختنق بالحبر السري الذي صيغت به مسوداته الأولى. ثماني سنوات كاملة من الحرب (2015–2023) كانت كافية لإعادة ترتيب الإقليم، لكن عملية الفهم تتطلب العودة خطوة إلى الوراء: كيف وصلنا إلى هذه اللحظة؟ ومن صنع التحوّل؟
قبل الاتفاق، كانت الأزمة اليمنية تسير بلا كوابح. الجميع يذكر أن مؤتمر الحوار الوطني (2013–2014) قدّم اعتذارًا للحوثيين عن ستّ حروب صعدة التي التهمت أكثر من مائة ألف جندي وضابط، وشاركت السعودية في آخرها عام 2009. وفي 21 سبتمبر 2014، اجتاح الحوثيون صنعاء تحت غطاء “اتفاق السلم والشراكة”، اتفاق هزيل عجّل بسقوط مؤسسات الدولة: الرئاسة، الحكومة، الجيش، الإعلام، والقضاء.
خلال خمسة أشهر فقط، كان الرئيس عبد ربه منصور هادي محاصرًا في منزله، وحكومته تقدم استقالتها، والحوثيون يسعون لشرعنة انقلابهم عبر البرلمان. لولا موقف كتلة الجنوب في ذلك البرلمان، لكانت استقالة هادي قُبلت فورًا. رفض الجنوبيون تمرير الاستقالة، ودعوا الرئيس لممارسة صلاحياته، وفي 6 فبراير 2015 أعلن الحوثيون قانونهم الخاص: "الإعلان الدستوري". انقلاب مكتمل الأركان.
إقليمياً كان الصمت مدويًا، فيما كانت طهران تعلن بارتياح أن “عاصمة عربية رابعة سقطت في يدها”، بينما تنتظر الخامسة.
لكن هروب الرئيس هادي إلى عدن في 21 فبراير أعاد خلط الأوراق. في عدن، كان الحراك الجنوبي يحاول تجنب الحرب الطائفية، لكن الحوثيين اجتاحوا البلاد بسرعة جنونية. انهارت المدن بلا مقاومة تُذكر، باستثناء بعض الجيوب في البيضاء ومكيراس.
في #عدن_العاصمة انهار الجيش اليمني، وأعلنت قوات الأمن الخاصة اليمنية ولاءها للحوثيين. بقيت اللجان الشعبية بقيادة الشهيد #علي_الصمدي، وإلى جانبه العملاقان فيصل رجب وهيثم قاسم جواس تحت إشراف وزير الدفاع محمود الصبيحي. معارك المطار وبيان “الجنوب العربي – رقم 1” كانت الشرارة.
لكن الضربة الحقيقية جاءت فجر 26 مارس 2015؛ حين انطلقت عاصفة الحزم، ومعها دخلت #الإمارات المعركة بقوات خاصة في عدن، فبدأت المقاومة الجنوبية أول اختبارات الحياة والموت. بعدها بثلاثة أشهر كانت عدن محررة، ثم رأس عمران، الحوطة، العند، الضالع، أبين، وصولًا إلى مكيراس.
عام 2016 كان عامًا مفصليًا. بقيادة اللواءين أحمد سعيد بن بريك وفرج سالمين البحسني، تحرر ساحل حضرموت من تنظيم القاعدة بدعم إماراتي. وبعدها تحررت شبوة وأبين تدريجيًا.
لكن — وهنا بيت القصيد — التحول الاستراتيجي الذي أجبر إيران على إعادة حساباتها، لم يبدأ في 2015 ولا 2016. بل في نهاية 2021.
عملية "إعصار الجنوب": المسمار الذي دقّه الجنوبيون في جدار النفوذ الإيراني، عندما اجتاح الحوثيون بيحان وعسيلان وعين في محافظة شبوة، وأسقطوا ثلاثة ألوية بكامل تجهيزاتها، كان المشهد يبدو كارثيًا. لكن #الجنوب_العربي_الحر لم ينتظر أحدًا.
دفعت القيادة العسكرية الجنوبية بقوات العمالقة في أطول انتشار ميداني: من المخا غربًا حتى شبوة شرقًا.
وفي أقل من شهر، وبإسناد إماراتي مباشر، طُرد الحوثيون شر طردة، وتحررت المديريات الثلاث بسرعة أذهلت الإقليم.
هذه العملية لم تكن مجرد انتصار تكتيكي؛ كانت ضربة على الرأس. كشفت هشاشة الحوثيين الذين لا ينتصرون بالمعركة بل بخيانة الجبهات. ووضعت إيران في زاوية ضيقة؛ إذ أدركت أن استمرار الحرب قد يفقدها كامل أوراقها في اليمن.
الدبلوماسية السعودية قرأت المشهد جيدًا، احسنت استغلال الهدية #الجنوبية_الإماراتية بتحرير ريف شبوة وتأمين مأرب من السقوط بالانتشار في بلدة حريب.
والإيرانيون شعروا بأن “إعصار الجنوب” ليس عملية معزولة، بل بداية اندفاعة نحو مأرب والبيضاء والجوف، وربما أكثر.
من هنا، بدأت طهران تُخفّض سقفها، وتبدأ اتصالات التهدئة، وتقبل — مرغمة — بتوقيع اتفاق بكين 2023.
الاتفاق لم يصنعه الوسطاء في الفنادق.. صنعه “انفصاليو الجنوب” — كما يسميهم خصومهم — الذين فرضوا معادلة جديدة بقوة الميدان، لا بخطب السياسة.
خلاصة المشهد
لو لم تنتصر إعصار الجنوب، لما جلست إيران إلى الطاولة.
ولولا المقاومة الجنوبية التي صمدت حين انهارت جيوش كاملة، لما كانت السعودية تملك ورقة ضغط حقيقية.
ولولا “الانفصاليوووون” — تلك التهمة التي أصبحت وسامًا — لما اضطر الحوثيون للتفكير لأول مرة بأنهم ليسوا قوة لا تُقهر.
شكرًا للانفصاليين الجنوبيين الذين غيّروا ميزان القوى، ووضعوا الإقليم على عتبة اتفاق تاريخي، ما كان ليحدث لولا هذه التضحيات كبيرة والإسناد الإماراتي الكبير.
شهادة يوثقها:
#صالح_أبوعوذل
صالح أبوعوذل
صحافي مستقل