في صباح شتوي غير معتاد، شهدت رمال مقر اللواء "37 مدرع"، لحظات درامية تجاوزت حدود المشهد العسكري المألوف، عقب سيطرة القوات الجنوبية المسلحة، الأسبوع الماضي، على مناطق وادي حضرموت.
وقف المهندس العسكري في صفوف جيش "اليمن الجنوبي" السابق، ناصر حسن زين، أمام صف من الدبابات الصامتة التي تركتها ألوية "المنطقة العسكرية الأولى" خلفها، وهو يحدّق في أجسادها الصدئة كما لو أنه يقرأ وجوها يعرفها منذ زمن بعيد.
لم يتمالك الرجل دموعه حين وقعت عيناه في زاوية معسكر اللواء بمنطقة "الخشعة" على مركبة الإسناد الهندسي السوفيتية، كأنها قطعة من ماضية تنتظره بصبر المعادن.
اقترب منها ببطء واضعا يده على هيكلها المغبرّ، يتحسس الأرقام المنقوشة على بدن الآلية المدرعة: الرقم ذاته والهيئة نفسها ورائحة الزيت القديمة فتحت باب ذاكرته على مصراعيها.
كانت المركبة هي ذات الورشة المتنقلة التي خدم عليها مهندس الدبابات في لواء "العبر" سابقا على هذه المنطقة حتى صيف العام 1994، قبل أن تبتلعها الحرب التي شنّها نظام الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح على الجنوب، وتطوي معها أحلام جيل كامل من العسكريين والأمنيين الجنوبيين المُبعدين عن وظائفهم قسرا.
لم تكن الآلية الهندسية مجرد كتلة معدنية عسكرية في ناظري المهندس ناصر، بل قطعة من روحه عادت إليه بعد أكثر من ثلاثين عاما من الإقصاء.
يقول شقيقه الأصغر، الطبيب صالح حسن زين، إن ناصر أسر مع رفاقه في حرب العام 1994 ونُقل إلى سجن مأرب، قبل أن يُفرج عنه لاحقا، ليجد نفسه خارج الخدمة والوطن معا.
فرضت الحرب تلك واقعا جديدا تآكلت تآكلت معه المؤسسة العسكرية في الجنوب؛ إذ استُقدمت قوات من شمال اليمن لتفرض انتشارها على المناطق الجنوبية، بينما أقصي آلاف الضباط والجنود الذين عاشوا مع أسرهم عقودا من التهميش بلا معاشات ودون أدنى اعتراف بسنوات خدمتهم الطويلة، ما ترك جرحا مفتوحا في الذاكرة الجنوبية حتى اليوم.
مع انطلاق هجوم ميليشيا الحوثي والقوات الموالية لصالح على المحافظات الجنوبية في العام 2015، لم يتردد المهندس العسكري ناصر زين، في الانضمام إلى المقاومة الجنوبية؛ ثم قاده حنينه غير المنهزم إلى أصوات المحركات التي ألفها، بعد التحاقه بكتيبة الدبابات في اللواء الخامس دعم وإسناد، في جبهة ردفان بمحافظة لحج.
واصل شغفه بمهنته حتى امتزج عرقه بزيوت المحركات المحروقة في عدد من جبهات القتال، مدركا بأن المعركة ليست فقط ضد خصوم في الميدان، بل هي حرب لاستعادة الذات المسلوبة.
في مطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري، ومع تحرك القوات الجنوبية لإعادة رسم خريطة السيطرة والانتشار ومعالجة الاختلالات الأمنية والعسكرية المتوارثة منذ عقود في أجزاء حضرموت الشمالية، استدعي المهندس لمهمة صيانة الدبابات المهجورة.
سرعان ما لبّى النداء ضمن فريق هندسي من اللواء الخامس متوجها إلى وادي حضرموت في صدفة قادته دون تخطيط إلى ورشته القديمة، حاملا أدواته بيد، وكرامته باليد الأخرى، وهو يؤمن بأن الأرض تعرف أبناءها مهما طال الغياب.
- من صفحة الكاتب على فيسبوك