آخر تحديث :السبت-27 يوليه 2024-01:35ص

فن وثقافة


كيف فرّت المسرحيات من أرفف المكتبات العربية؟

كيف فرّت المسرحيات من أرفف المكتبات العربية؟

الأحد - 08 نوفمبر 2020 - 02:33 م بتوقيت عدن

- نافذة اليمن - وكالات

إذا كان من المعتاد نشوء محاورات عِدة بين جمهور الثقافة العربي عن رواية جديدة لكاتب ما تُثير جدلا واهتماما هُنا وهناك، فإنه من النادر وجود محاورات شبيهة تخص مسرحيات جديدة، حتى أن الجمهور يعرف روائيين كثرا من مختلف الأجيال ويتابعهم على تويتر، وفيسبوك، وعبر منصات البوكتيوبيرز وغودريدز، ويحرص على التعليق على أعمالهم، لكنه لا يكاد يعرف كتابا مسرحيين إلا نادرا.

الأمر بُرمته يبدو مُثيرا للانتباه، فالمفترض أن سيادة الرواية منطقية، لكنها لا يجب أن يقابلها خفوت للمسرحية، لأن الكتابة المسرحية فن مُغاير، أقدم تواجدا في العالم العربي من الرواية، وربما أيسر وصولا للناس عبر خشبة المسرح، والمسرحيات مثلها مثل الرواية تقدم حكاية ما، لكن بنمط أكثر تكثيفا، وبحرص أشد على عذوبة الحوار، وفي لغة مؤثرة لها دلالات قوية.

 ليس ثمة تفسير واحد لانصراف المبدعين العرب عن الكتابة المسرحية، وانصراف الجمهور عن قراءة المسرحيات. فقبل عامين سألت الناقد المصري جابر عصفور عن رأيه في حال المسرح وكتاباته، فأقر بتراجعه وخفوته، ملمحا إلى ارتباط ذلك بتراجع الديمقراطيات العربية، وانحسار حرية التعبير في ظل الاستقطاب المُتسع، وطغيان موجة من الانغلاق في معظم المجتمعات العربية تحت عباءة المد الأصولي.

الحرية هي الغذاء الأول لفن المسرح كتابة وعملا وأداء، وكلما تعددت التابوهات، وارتفعت جدران المحرمات، انعكس ذلك سلبا على الكتابة، وحدّ من تأثيرها، وأضعف من صدقها، لأن فن الكتابة المسرحية يتميز عن الكتابة الروائية بالحوار الواسع والمنفتح والمباشر، ويصعب إخضاعه للرقابة والتحوير والحذف.
 
ومع أن فن المسرح في العالم العربي واجه في حقبتي الستينات والسبعينات من القرن الماضي عسفا سلطويا، في ما يخص حرية التعبير عبر منظومة مراقبة سياسية قوية، إلا أن مبدعي هذا الفن نجحوا وقتها في التحايل على القيود المفروضة على التعبير من خلال الاستعانة بالشخصيات الرمزية، واستدعاء التاريخ مثلما فعل كثيرون، أبرزهم الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور في مسرحيته “مأساة الحلاج”، أو الكاتب توفيق الحكيم في “السلطان الحائر” ومن بعدهما عبدالرحمن الشرقاوي في “الحسين ثائرا”، ثم محمد الماغوط في “كأسك يا وطني”، وسعدالله ونوس في “مغامرة رأس المملوك جابر”، وغيرها من الأعمال المسرحية الشهيرة.

نستمع مثلا في مسرحية “مسافر ليل” لعبدالصبور إلى محاكمة حوارية واضحة وجريئة تفضح العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتسخر من هيمنة الأول على كل قيمة وتشككه في كل فعل.

تعتمد المسرحية على مشهد داخل قطار ليلي يوجد فيه راكب مسافر، ومفتش تذاكر يمر عليه ليجده مستغرقا في قراءة كتاب عن الحكام الطغاة، فتتلون هيئة مفتش التذاكر ليبدو في هيئة لطغاة كثر، ما يصيب المسافر بالفزع ويسعى إلى محاولة استرضائه بكلمات مجاملة ونفاق وخضوع.

حاوره مرارا لكنه وجد أمامه رجلا بلا لين، ويصاب باليأس من إخراجه من دائرة ظلم البشر، وتتطور المواجهة بينهما لنجد المفتش يختطف التذكرة من الراكب ويأكلها ثم يتهمه بعد ذلك باتهامات عديدة ومتنوعة وغريبة.

هنا نجد مفتش التذاكر يتحدث إلى الراكب كجلاد قاس قائلا “لا تعرف قدري يا جاهل، قسما سأروضك كما روضت المهر الجامح”.

ينتهي الحوار الطويل بقيام المفتش بالحكم بإعدام الراكب، لكنه يخيره بين أربع وسائل قتل، بالسوط أو السم أو الغدارة أو الخنجر، ثم يقوم بطعنه بالخنجر، فيقول الراكب “لا أملك أن أتكلم، وأنا أنصحكم أن تلتزموا مثلي بالصمت المُحكم”.

بمثل هذه الجرأة واجهت مسرحيات عديدة قسوة السلطة، فاختارت مواقف رمزية سرّبت بين ثناياها فنا جريئا صادقا، قادرا على التنديد بالقهر، وتحدي القبح، ورفع علامات الاحتجاج الفني.

اختلف مثل هذا التوجه تماما في الآونة الأخيرة، والسبب يرجع إلى أن قيود التعبير التي كانت مفروضة من السلطة انتقلت الآن إلى الشارع، الذي خضع لهيمنة الخطاب الأصولي، فلم تعد للرقابة والترصد سلطة، كما كانت في الماضي، وإنما صارت مُجتمعية، وليس ممكنا إعادة إنتاج أعمال مماثلة في جرأتها لـ”مأساة الحلاج” مثلا، لأن الأصوليين يعتبرون شخصية الشاعر الصوفي الحسين بن منصور الحلاج نفسه، شخصية خارجة عن الملة.

يبدو أن الشارع لا يتحمل نصا مثل “الآلهة غضبى” لبهيج إسماعيل والمكتوب سنة 1968، أو تقبل أبيات شعر لنجيب سرور في مسرحية تقول كلماتها “الخوف قوادٌ فحاذر أن تخاف/ قُل ما تريد لمن تريد كما تريد متى تريد/ لو بعدها الطوفان قلها في الوجوه بلا وجل”.

تستدعي الأمانة القول، إن الجرأة يُمكن أن تدفع مبدعين مسرحيين إلى تحدي القيود المجتمعية ومقاومة انغلاق السلفية والاستمرار في كتابة مسرحيات جريئة حتى لو لم تجد مسارا سهلا للنشر أو  خشبة مسرح للعرض.

يدفعنا ذلك إلى استكشاف مُتغيرات أخرى تخُص إغراءات الكتابة ذاتها من الأساس، إذ لم تعد كتابة المسرحيات أمرا مفضلا لدى المبدعين أنفسهم.

ويرجع الأمر لعدة أسباب، أهمها أن المسرح لم يعد محل اهتمام الناس، بعد أن تدهورت حاله نتيجة شيوع نمط الملهاة عليه، وانحسار نمط المأساة.

لقد صار المسرح لدى الجمهور نفسه وسيلة إضحاك، لا وسيلة تأثير، ما حدا بكثير من الأعمال للتركيز على المحاورة الساخرة الخالية من أي مضمون.

وساهم التطور التكنولوجي، وما تلاه من انتشار لمقاطع فيديو شخصية، وتأسيس منصات فنية تصل إلى كافة الأسر بمنازلها في انصراف الناس عن المسرح، وتراجع الاهتمام بالتمثيل المباشر، ما جعل المؤلف بدون حوافز مادية تُقنعه بإمكانية احتراف الكتابة المسرحية كعمل يُمكنه العيش منه.

وامتدت المسألة إلى الجانب النفسي الخاص بالشهرة والجماهيرية لدى الناس، كما أن الترويج الدائم والمستمر لجوائز الرواية، وتعدد وتنوع تلك الجوائز جعلت كلها غالبية الكُتاب يركزون جهودهم على كتابة الرواية طلبا للجوائز، وصار لقب أديب مقتصرا تقريبا على مَن يكتب الرواية لا المسرحية أو الشعر.

وبدت الرواية نموذجا للقالب الأيسر والأطوع للتشكل في أي نوع فني آخر، إذ يسهل تحويلها إلى مسلسل درامي، أو فيلم سينمائي، أو حتى مسرحية، ما يجعلها أوفى وأشمل وأكثر إغراء للمبدعين من المسرحية.

ونجد في الآونة الأخيرة أن صناع المسرح أو الباقين من العاملين في المسرح يلجأون إلى مسرحة روايات شبابية رائجة، بدلا من الاستعانة بمسرحيات أصلية، وكأنهم يقرون بأن الرواية يُمكن أن تقوم بدور مزدوج، وربما كانت مسرحية “وش البركة” المأخوذة عن رواية 1919 للكاتب المصري أحمد مراد، والمقدمة في بداية العام الحالي نموذجا لمثل ذلك التوجه.

نقطة أخرى مهمة، تتمثل في كون الكتابة المسرحية من أصعب أنواع الكتابات، نظرا إلى ما تتطلبه من قدرة فنية عميقة على صياغة إطار قصصي بلغة سلسة مؤثرة، ما يلزم بأن يكون الكاتب المسرحي قوي الاطلاع، ومُلما بالفلسفة والتحليل النفسي، ومتابعا جيدا لتاريخ المسرح ونقلاته الفارقة.

وطبقا لرؤية الكاتبة المسرحية الكويتية تغريد الداوود، فإن هناك تهميشا متعمدا للكاتب المسرحي، في ظل تدخلات أوسع للمخرجين، ما ساهم في إشعار المؤلف بمحدودية الدور الذي يلعبه، لأن الكثير من الفرق المسرحية تتجنب اللجوء إلى نص مسرحي عربي تفاديا للمسائل المالية المترتبة على ذلك، وتسعى للاشتغال على نص عالمي قديم وإعادة إخراجه مسرحيا.

تأثرت الكتابة المسرحية بالتطور الحادث في شكل الشعر، وانصراف العامة عنه نتيجة سطوع شمس قصيدة النثر، وتسرب الموسيقى بعيدا عنه، ما جعل حفظ الشعر، مثلما هو الحال في الماضي أمرا صعبا.

نتذكر كيف كان المسرح الشعري، منذ بدايات المسرح العربي الحديث في لبنان، ثم انتعاشه في مصر، سندا وداعما لمسيرة الكتابة المسرحية بما قدمه من مسرحيات شعرية، منها “مصرع كليوباترا” و”مجنون ليلى” للشاعر أحمد شوقي، الملقب بأمير الشعراء.

وتبقى الكثير من العبارات الشعرية الواردة في مسرحيات الرواد محل تداول على المستوى الشعبي حتى الآن، مثل قول والد ليلى في مسرحية “مجنون ليلى” لقيس بن الملوح “امض قيس امض. جئت تطلب نارا/ أم ترى جئت تُشعل البيت نارا”، أو مثل قول عبدالرحمن الشرقاوي، على لسان الحسين في مسرحية “الحسين ثائرا”، “الكلمة نور/ وبعض الكلمات قبور/ وبعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري/ الكلمة فرقان بين نبي وبغي/ بالكلمة تنكشف الغمة/ الكلمة نور/ ودليل تتبعه الأمة”.

كان من اللافت أن فن الكتابة المسرحية استوطن عالمنا العربي مبكرا، عندما قدم مارون النقاش في بيروت عام 1847 مسرحية “البخيل” التي لاقت استحسانا وأثارت همما ودفعت طاقات إبداعية للخروج والتمدد، فانتقل الفن الجديد إلى مدينة الإسكندرية على يد سليم النقاش، معتمدا على تعريب أعمال مسرحية عالمية، ثم شاع المسرح وازدهر في القاهرة، ودمشق، وتونس، والجزائر.

وجرت أكبر نهضة مسرحية عربية في بدايات القرن العشرين على أيدي أديب إسحاق، وجورج أبيض، ومن بعدهما يوسف وهبي، ونجيب الريحاني، وعزيز عيد، قبل أن يشارك مبدعون كبار في مسيرة الكتابة المسرحية بإنتاج غزير، مثل الكاتب بديع خيري، ما دفع الشاعر أحمد شوقي إلى تقديم سبع مسرحيات شعرية، كما قدم توفيق الحكيم عشرين مسرحية.

وتوالت أعمال المبدعين الكبار، مثل الشاعر السوري محمد الماغوط، والمصري ألفريد فرج، والعراقي عادل كاظم، والسوري سعدالله ونوس، وغيرهم، وتوالت موجات الصعود قبل الإنزواء الكبير الآني لتصبح المسرحية بئرا مهجورا في صحراء الأدب العربي الحديث.