آخر تحديث :الجمعة-04 يوليو 2025-01:36ص

كيف صرنا خبراء في نقد الآخر وفاشلين في نقد انفسنا؟

الجمعة - 04 يوليو 2025 - الساعة 12:14 ص

حسين الوادعي
بقلم: حسين الوادعي
- ارشيف الكاتب


في خضم موجة ما بعد الحداثة التي اجتاحت الفكر العالمي، انشغل كثير من المثقفين العرب بتبني خطابها التفكيكي، لكنهم أساؤوا فهم جوهرها. فبدل أن يوجهوا سهام النقد نحو السرديات الكبرى الخاصة بنا — مثل سردية العروبة، واللغة، والماضي الذهبي، والروحانية، والتميز الأخلاقي، وعودة الخلافة، والإسلام هو الحل، ونظرية المؤامرة والخصوصية— انصرفوا إلى تكرار ما قاله الغربيون في نقد السرديات الغربية فقط، كسردية التنوير، والحداثة، والعقلانية، والديمقراطية الليبرالية.


بعبارة أخرى: طبقنا أدوات ما بعد الحداثة خارج أنفسنا لا داخل فضائنا الثقافي. فبدل أن نسأل: لماذا نتمسك بسرديات موروثة غير مفحوصة؟ تساءلنا: لماذا يهيمن الغرب بسردياته على العالم؟ وكأن سردياتنا بريئة من المساءلة.


المفارقة أن نقد السرديات الكبرى هو في جوهره دعوة لتواضع فكري، وفتح المجال للتعدد، والمهمّش، واليومي. لكنه، في السياق العربي، تحوّل إلى نرجسية ثقافية، وترسيخ للموروث، وتبرير للتخلف و للهروب من النقد الذاتي.


وبهذا، تحوّل نقد ما بعد الحداثة من مشروع نقد ذاتي إلى ممارسة خارجية تُستخدم لمهاجمة الآخر فقط، دون مراجعة الذات. والنتيجة؟ استمرار التعلّق بسرديات عربية كبرى، تُنتج خطابًا مغلقًا، عاطفيًا، ومعزولًا عن الأسئلة الكونية والواقع المعقد.


ففي السياق العربي، هناك سرديات كبرى ما تزال حية ومؤثرة: سردية الماضي الذهبي التي تفترض أننا على أعتاب استعادة المجد إذا ما صحونا من “غفلتنا” الحضارية وعدنا للموروث، وسردية الأمة الواحدة الممزقة بفعل الاستعمار وتواطؤ الأنظمة، وسردية الإسلام الشامل الذي يحتوي الحل لكل الأزمات، وسردية المؤامرة التي تفسّر كل إخفاق بيد خارجية، وسردية القضية الفلسطينية بوصفها قلب الوجدان العربي ومفتاح الكرامة المفقودة، وسردية الشهادة والمقاومة كوسيلة لاسترداد الذات المغتصبة، وأخيرًا سردية الهوية المهددة التي ترى في كل مظهر من مظاهر العولمة محاولة لطمس الشخصية العربية والإسلامية.


في المقابل، يملك الغرب هو الآخر سردياته الكبرى التي أنتجتها الحداثة والتنوير: سردية العقل والعلم باعتبارهما السبيل لتحرير الإنسان من الجهل والخرافة، وسردية التقدم الخطي الذي يرى التاريخ كمسيرة نحو الأفضل، وسردية الليبرالية التي تضع حرية الفرد وحقوق الإنسان في قلب مشروعها السياسي، وسردية العلمنة التي تفصل الدين عن الدولة والمعرفة، وسردية التفوق الحضاري التي تفترض أن على الغرب واجبًا أخلاقيًا في تصدير قيمه “الكونية”، وسردية السوق الرأسمالية كقوة تحرير وتنمية، وسردية العقل الكوني الذي يعتقد بإمكانية الوصول إلى قيم إنسانية مشتركة بالعقل والتجربة.


في ظل هذا المشهد، يصبح من الضروري أن نتجاوز ثنائية “نحن مقابل هم”، ونسائل ما نرويه لأنفسنا، لا فقط ما يقوله الآخرون عن أنفسهم، أو ما يقولونه عنا. فالحكمة ما بعد الحداثية لا تكمن في هدم سرديات الآخر، بل في تفكيك سرديات الذات، تلك التي تبدو بديهية أو مقدسة أو فوق النقد.


ربما آن الأوان لنتوقف عن الهجوم على سرديات الآخرين، ونبدأ في هدم أصنامنا نحن، لأن تحرر الفكر لا يتم من الخارج، بل من الداخل.