ليست مشكلة اليمن في كونه بلدا قابلا للصراع وبعيدا عن الاستقرار، بل في أن هناك مشروعا عنصريا عاش تاريخيا على إنتاج الصراع بوصفه شرطا لبقائه، هذا المشروع هو الإمامة الزيدية الهادوية، التي لم ترَ في وحدة اليمنيين قوة لها، بل خطرا وجوديا يهدد شرعيتها السلالية.
منذ دخول الكاهن يحيى بن الحسين الرسي إلى اليمن عام 284هـ، لم تكن الإمامة مشروع دولة وطنية، بل نظرية حكم تقوم على تثبيت أحقية سلالة بعينها في السلطة، بوصفها استحقاقا دينيا لا خيارا شعبيا او سياسيا.
ومنذ تلك اللحظة، بدأ الانقسام البنيوي: سلالة تسعى للحكم باسم الحق الإلهي، وشعب يُطلب منه الطاعة لا المشاركة، فيرفض ويقاوم وينشئ دولة موحدة، وكما عجزت الامامة على توحيد اليمن كانت الدول اليمنية على كامل الأرض كالدولة الرسولية والصليحية وغيرها وصولا الى دولة الجمهورية بعد ثورتي السادس من سبتمبر والرابع عشر من أكتوبر.
النظرية التي قامت عليها الإمامة لم تكن شرعية إجماع أو عقد اجتماعي، بل شرعية نسب مزعوم، وهذا كان وحده كاف لخلق مجتمع منقسم بين أهل الحق والرعية، ولتثبيت هذه المعادلة، اعتمدت الإمامة على خطاب مظلومية آل البيت والتفريق بين اليمنين الى تابع مؤمن ومخالف كافر مستهدف في ماله ونفسه، وعلى هدم أي شعور بالانتماء الوطني الجامع، بل والنظر إلى الروح الوطنية نفسها باعتبارها جاهلية وضد الدين.
بهذا المعنى، لم تكن الإمامة محتاجة إلى يمن موحد، بل إلى يمن ممزق: مناطق نفوذ، ولاءات متباينة، وصراعات داخلية تمنع تشكّل وعي وطني جامع يطرح سؤال الشرعية.
وخلافا لما يتم ترويجه، لم تحكم الإمامة اليمن حكما مستقرا ولا متصلا، بل حكما متقطعا اتسم بالصراع الدائم، فنظرية الخروج في الفكر الزيدي جعلت السيف هو وسيلة الوصول إلى الحكم، اما بالتآمر على الدولة الوطنية، او الخروج إمام على إمام، ما فتح الباب أمام تعدد الأئمة والكيانات، حتى بلغ العبث ذروته في فترات كان يُعلن فيها أكثر من إمام خلال زمن وجيز، وأحيانا على رقعة جغرافية ضيقة جدا.
ولكيلا يتأثر اليمنيون بتجارب سياسية خارج إطار رؤية السلالة، كان من الضروري عزل اليمن عن محيطه العربي والإسلامي، فاليمني الذي يرى دولا تقوم على الشورى أو المشاركة أو المؤسسات، لن يقبل بسهولة بحكم يزعم أنه نازل من السماء.
وهكذا دخل اليمن قرونا من العزلة، وانتقل تدريجيا من صورة اليمن السعيد إلى واقع اليمن المنهك بالصراعات والتخلف.
إنه من الخطأ اختزال تشطير اليمن في الاحتلال البريطاني لعدن عام 1839م، فالتجزئة سبقت ذلك بكثير، وبدأت مع قيام الدويلات الإمامية نفسها، التي تعاملت مع اليمن بوصفه مناطق طاعة لا وطنا واحدا.
وقد شهد التاريخ إعلانات انفصال مبكرة، حتى قبل الاستعمار، أسهمت في نشوء سلطنات ومشيخات متفرقة.
وعندما جاء الاستعمار البريطاني، وجد واقعا ممزقا أصلا، فعمل على تعميقه بسياسة فرق تسد، والأخطر أن مصالح الاستعمار التقت، في مراحل كثيرة، مع مصالح الإمامة؛ فالإمامة كانت تكفل وأد أي حركة تحررية وطنية من الشمال، بينما يكرّس الاستعمار التشظي في الجنوب.
لتمثل اتفاقية ترسيم الحدود عام 1934 بين الكاهن يحيى حميد الدين والاستعمار البريطاني، الإقرار الأبرز لإضفاء شرعية دولية على انقسام يخدم الطرفين: إمام في صنعاء، ومندوب سام في عدن.
لم يقتصر التمزيق على الجغرافيا، بل طال النسيج الاجتماعي نفسه، كما يوضح الشهيد محمد محمود الزبيري، فقد عملت الإمامة على بث الفرقة المذهبية بين شوافع وزيود، وعلى تعميق الفوارق المناطقية، والتمييز بين القرى والمدن، وترسيخ التمجيد بالسلالة بوصفها طبقة حاكمة.
وفي توصيفه العميق لخطر الإمامة على الكيان الوطني، يقول الزبيري:
"إن الإمامة من أساسها فكرة طائفية مذهبية، لا تؤمن بالشعب ولا بالمساواة، وتعيش على تمزيق الوحدة الوطنية، لأنها لا تستطيع البقاء إلا في مجتمع مفكك لا يملك إرادته."
هذا السلوك خلق فجوات عميقة بين اليمنيين شمالا وجنوبا، ومهّد لتقبّل مشاريع التشطير، وما نراه اليوم في سلوك الحوثيين من فرز طائفي، وتغيير مناهج، وانفصال اقتصادي، ليس إلا إعادة إنتاج حرفية لذلك التراث الإمامي، الذي بتطبيقه في صنعاء ومناطق من الشمال يجعل الأطراف من اليمن في توجس من الوحدة مع ميليشيا امامية تنبذ الجميع ولا تقدم نموذجا مشجعا لدولة للجميع.
من هنا نفهم أن ثورة 26 سبتمبر 1962 لم تكن مجرد ثورة تقليدية على حكم فردي، بل خطوة حاسمة لإسقاط أحد أهم أعمدة التشطير: الاستعمار السلالي في صنعاء.
فإسقاط الإمامة كان شرطا لازما لإحياء المشروع الوطني، وتمهيد الطريق لمعركة التحرر من الاستعمار البريطاني في الجنوب.
لقد أعادت الجمهورية الاعتبار لفكرة الوطن الواحد، وأغلقت، لأول مرة منذ قرون، الباب أمام الكيانات السلالية والمناطقية، حتى تُوج هذا المسار الوحدوي بتحقيق وحدة اليمن في 22 مايو 1990، بوصفها ثمرة طبيعية لنضال طويل ضد الإمامة والاستعمار معا، وتجسيدا لحلم ظل يراود اليمنيين شمالا وجنوبا.
غير أن هذا الإنجاز التاريخي لم يسلم من الاستهداف، إذ عاد شبح التقسيم مجددا مع عودة الإمامة الزيدية بوجهها الجديد في انقلاب 21 سبتمبر 2014، حين أعادت جماعة الحوثي إنتاج نفس الفلسفة السلالية القديمة: تقويض الدولة، تفكيك المجتمع، إحياء العصبيات، وضرب فكرة المواطنة والوحدة الوطنية في الصميم.
وكما كانت الإمامة القديمة تعيش على تمزيق اليمن، جاءت الإمامة الحوثية لتسير على الطريق ذاته، مؤكدة أن المشروع واحد، وأن تغيّر الأسماء لا يعني تغيّر الجوهر.