مصر بالنسبة لنا كيمنيين ليست دولة شقيقة وحسب، ولا جارا بعيدا نذكره في نشرات الأخبار، بل هي ذاكرة بدائية تسكن في خلايانا كأنها جزء من نص خلقنا الأول. حين ننطق اسمها لا نلفظ ثلاثة حروف، بل نفتح بابا على جلال ما زال قائما منذ آلاف السنين. هي الحكاية التي لا تتشابه مع أي حكاية، والمكان الذي لا يقف في صفوف الآخرين، لأن التاريخ لا يعرف له مثيلا.
نفرح لمصر كلما تقدمت، ليس مجاملة ولا تعويضا لنقص في دواخلنا كما يظن البعض فحسب، بل لأننا نرى فيها شيئا يشبهنا كما كنا، ويشبه ما كان ينبغي أن نظل عليه. نشعر أن يدها حين تبني، وقوتها حين تجدد، واسمها حين يعلو، كلها تمتد إلينا، تلمس ما تبقى في أرواحنا من كبرياء قديم، وتهمس: هكذا كان يمكن أن تكونوا، وهكذا ما زلتم في أصل الحكاية.
نحن ومصر أبناء أرض واحدة، من صلصال واحد، نتشارك في جذور دفنتها الأزمنة في عمق الرمال نفسها، وتفرعت في السماء نفسها. منذ أن تزوج إسماعيل عليه السلام امرأة حضرمية فاختلط الدم وتصافحت الأرواح، ومنذ أن حكمتنا نساء لا يشبهن نساء اليوم: نفرتيتي هناك، وبلقيس هنا، عرش وولاية وجمال لا يُحكى لاستعراض تاريخي، بل لاستعادة شعور مهيب بأن المجد لم يكن يوما حكرا على ملوك الرجال.
لكن الفرق أن مصر أمسكت بخيط الحضارة ولم تفلت، بقيت تمشي إلى الأمام حتى لو تعثرت، تنهض حتى لو كسرت، تبني حضورها على جبين العالم كل يوم كما تُبنى المعابد حجرا فوق حجر، وصبرا فوق صبر، وإيمانا فوق كل المعاني. بينما نحن، بكل ما حملناه من تاريخ كان يمشي في مقدمة البشرية يوما، نخطو اليوم نحو اللاعودة، كأننا نطفئ نورا أشعلته ملايين الأرواح قبلنا، ونترك الأبواب مفتوحة لرياح لا تعرف الرحمة.
لسنا نغار من مصر، نحن نغار على أنفسنا حين نراها؛ نغار على تاريخنا الذي يهاجر منا، وعلى حضارتنا التي تقف عند الباب تنتظر من يعترف بها، وعلى أرواح وُلدت لتقود فانتهى بها الحال تبحث عن ما تبقى من ملامحها في دفاتر الكتب. نحن لا نقول هذا حزنا، بل لأن الحب الصادق لا يخجل أن يرى الحقيقة ولا يخاف أن يعترف بها.
كلما صعدت مصر درجة نرفع رؤوسنا معها، وكلما قالت للعالم "ها أنا"، نشعر أننا نقولها معها بصوت آخر؛ بصوت اليمن التي كانت، واليمن التي يجب أن تكون، واليمن التي لن تموت مهما طال الليل. مصر تعيد إلينا شيئا فقدناه، وتذكرنا بأن السقوط ليس قدرا، وأن الحضارة لا تُدفن إلا إذا تخلى أبناؤها عنها.
وربما حين نتأملها ندرك أننا لم نخسر بعد كل شيء، وأن بين أنقاضنا بذرة تنتظر لحظة العودة، وأن الزمن مهما دار لا يخذل من يقرر أن يستعيد مكانه. ومثلما وقفت مصر في وجه النسيان وانتَصَرت، سنقف نحن أيضا، ليس لأننا ندعي المجد، بل لأننا خُلقنا منه.
من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك