وأخيرًا تلاشت الشّعارات الزائفة، وتولت المثاليات الرائجة التي ظلت مرفوعة لسنوات طويلة، انتهت في محصلتها النهائية برصيد صفري، عدمي.
لم يكن محور الممانعة الحديث أول من رفع الشعارات المثاليّة مع القضية الفلسطينية؛ لقد كان عبدالناصر ــ رحمه الله ــ يردد: "مين إسرائيل دي، هنرميها في البحر"؟! وبالنهاية كانت نكسة 67م، فاتحة النكسات والنكبات العربية التي تتالت بعدها، على صدق الزعيم ناصر، وعلى حبه الكبير لوطنه وأمته العربية. ولا مقارنة أساسًا بين صدق ناصر، ودجل الخمامنة الجدد.
كذلك ظلّ بعضُ الإسلاميين سادرين في أوهام "خداع الذات" حول القضية الفلسطينية إلى حد استخدام الحسابات الفلكيّة وعلم الجفر والزيرجة، وحسابات الجُمّل في تحديد ساعة الخلاص النهائية لمأساة القرن العشرين؛ بل لحلمهم الأكبر "الخلافة الإسلامية"، وظلّ المنظّر الإسلامي المعروف "بسّام جرار" سنواتٍ طويلة يحوم حول الحمى، ويستشرف ساعة الخلاص على ضوء "حسابات الجُمّل" وآياتِ القرآن الكريم، حد اعتقاده، والتي عززها البعض بأراجيز وشروحات وحواشٍ، تشبه شروحات وحواشي القرن السادس الهجري، ومع هذا آلت المعادلة كلها إلى التلاشي وصار الأمر هكذا: "فص ملح وذاب".
باختصار.. الأيديولوجيّات قيود اختيارية، وأحلامها الوردية لا تعدو أن تكون أحلام الأسير المقيد بالحديد، هيهات أن يفلت من قيوده، كل ما في الأمر متعة ساعة في أحلام المنام، ويعود إلى واقعه المُر.
ولعلّ أبرع المزايدين بخبث هم الخمامين الجدد في إيران والمنطقة عمومًا الذين خصصوا يوما سنويا للقدس، كما خصصوا فيلقا عسكريا باسمه، وقنوات فضائية ومراكز بحثية، وكل ذلك لتمرير مشاريعهم الخاصة، البعيدة أساسًا عن جوهر القضية الفلسطينية الأليمة.
في اليمن بدا الحوثي إلى المهرج المبتذل أقرب منه إلى السياسي الحالم، فرق بين سياسي حالم، وإن كان مخطئا، وبين مهرج مبتذل، يقتل اليمنيين ويتغنى باسم القضية الفلسطينية، يهدم مساجد اليمن، ويتباكى لهدم العدو الصهيوني مساجد غزة، يجوّع اليمنيين وينكل بهم، ويرفع عقيرته بما يفعله الصهاينة بغزة. والواقع أن أفعاله لا تقل شناعة عن أفعال الصهاينة أنفسهم.
وأخيرًا.. بانَ الصبح لذي عينين، كما يُقال، سقطت الشّعارات المرفوعة جميعُها منذ خمسينيّات القرن الماضي، وإلى اليوم، وانتصرت السياسة، السياسة بقوتها وواقعيتها، ولؤمها أيضًا.
ليس ثمة حل عادل حتى الآن للقضية الفلسطينية، هناك طرف ما فرض شروطه بناء على ما يمتلك من القوة، بعيدًا عن الشعارات والمثاليات، مضاف إلى ذلك شكر قيادة حماس للرئيس ترامب، راعي قرار الاستسلام، في الوقت الذي انتكست رؤوسُ المزايدين والشعاراتيين ومن يسمون أنفسهم المقاومين الذين كانوا ــ في الواقع ــ أحد المشاركين في هذه النكبة، من خلال أحداث 7 أكتوبر 2023م؛ علمًا أن هذا الحل ــ على ما فيه من الجور ــ هو الممكن السياسي المتاح والأقرب، والذي لو رفضوه اليوم لن يجدوا نصفه غدا، كما هو الشأن مع محطات "الممكنات السياسية السابقة"، ويبقى الرهان الأكبر لوضع حد نهائي لجريان الدم العربي الفلسطيني على ما تبذله المملكة العربية السعودية اليوم من جهودٍ في هذا الإطار، ولوضع حد نهائي لأكبر مأساة إنسانية في التاريخ الحديث، لا يماثلها إلا مأساة اليمنيين الجائرة التي اقترفها الحوثيون. فهل سندرك أنّ الشعارات لا تبني دولا؟ وهل سنعي الدرس بعد هذه التكلفة الجائرة؟!
د. ثابت الأحمدي