آخر تحديث :السبت-04 أكتوبر 2025-02:31ص

في تشويه العلاقة الوظيفية بين العلمانية والدين

السبت - 04 أكتوبر 2025 - الساعة 02:07 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


( الذين يزيفون حقائق الآخرين لا يخدمون

أمتهم أبدا بل يزيدونها ضِغْثٌ على إِبَّالة ) ق.م


من الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها الثقافة العربية الإسلامية الراهنة ذلك الاعتقاد الذي كرس أن العلمانية تقع على الطرف النقيض من الدين والتدين. بينما هي في حقيقة أمرها تقنية اجتماعية لحل المعضلة السياسة في المجتمعات الحديثة والمعاصرة وتجاوز أزمة السياسية التي جعلت الناس في كل الأزمان مجانين أو متوحشين أو فاقدي العقل. بحسب ريجيس دوبريه. لماذا تزيغ عقول الناس بمجرد أن يعيشوا في مجتمع؟ هذا السؤال الملح الذي يستحق التفكير والبحث إذ يرتبط الشأن السياسي للناس بحاجتهم إلى العيش المشترك في مؤسسة مدنية منظمة بالدستور والقانون وفقا لمبدأ قوة الحق لا حق القوة. وقوة الحق تعني أن لكل مواطن يعيش في مجتمع حق متساوي بالأهلية والقيمة والجدارة مع اشباهه من المواطنين الذين يتقاسم معهم العيش في المكان ذاته بغض النظر عن مواقفه واتجاهاته الايديولوجية فالوجود السياسي للناس هو الأمر الجوهري في تأسس الدولة الوطنية العامة ولا شأن له بالشعارات والرايات والأسماء والصفات والايديولوجية المختلقة التي يطلقها الناس على انفسهم والآخرين من قبيل؛ وطني وغير وطني جمهوري وغير جمهوري وحدوي وانفصالي الرعاة والرعايا السادة والعبيد ..الخ تلك هي فقاعات تتصل باللعبة السياسية المفترضة بعد تأسيس المجال السياسي الذي كان يجيب أن يحتوي كل المواطنين على درجة متساوية من القيمة والجدارة والأهلية ولا فضل لاحد على أحد في ذلك ابدا فالمواطنة حق وليست مكرمة والعيش المشترك في دولة جامعة للمواطنين القاطنين على الأرض المتعينة لا يتحدد بانتماءاتهم الايديولوجية ومواقفهم السياسية والسؤال ليس هو من هو الوطني ومن هو غير الوطني؟ بل هو كيف يمكن للمواطنين أن يعيشون في وطنهم بكرامة وأمن وسلام؟ وبدون هذا التمييز الدقيق بين السياسي والسياسة تضيع الشعوب والدول والأوطان. من هنا جاءت فكرة العلمانية بوصفها تقنية ممكنة للفصل بين المجالات الحياتية للناس. من المهم التمييز بين مجالي السياسة والسياسي, إذ أن الخلط بينهما يشوش الرؤية, فاللفظ سياسي يشير إلى الكائن الإنساني بوصفه كائناً اجتماعياً أو مدنياً حسب أرسطو وابن خلدون بمعنى الحياة المشتركة للناس في المجتمع أو ما يعرف بالشأن العام , بينما تشير لفظة السياسة إلى عملية إدارة الشأن العام بوصفها علاقات قوى , وبهذا يمكن لنا فهم عبارة روجيس دوبرية, " طويلاً ما أخفت السياسة عني السياسي. إنها تخفيه, ليس بمعنى ما يخفي القطار قطاراً آخر, بل بمعنى أن أي قطار يخفي السكك التي يجري عليها. هناك مسافات كثيرة, وشرعات كثيرة, ولكن هنا سكة حديد واحدة, أو سكة صليب"نفهم من ذلك أن وجود السياسي في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية, مثل بنية القرابة, والأسطورة وهذه القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي, نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها, بنية التكرار؟ وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي. وقد اختلفت تعريفات السياسة, فالبعض يعرفها(بتسويس الأمر)أو ب(فن الحكم) أو (فن الممكن) أو (تدبير الشأن العام) والبعض يعرفها(بالخلافة أو السلطان أو الوازع أو تدبير الملك) حسب أبن خلدون وأخر يعرفها ب(العقد المدني أو الإرادة العامة) أو(طريقة الوصول إلى السلطة واحتكار القوة) أو (علاقات القوة والهيمنة) حسب ميشيل فوكو ..الخ. وإذا ما كان علينا صياغة تعريفاً إجرائيا لمعنى السياسة فيمكننا القول: بأنها تلك المؤسسة الجامعة ( مؤسسة المؤسسات) الدولة التي تحتكر حق استخدام القوة وتضطلع بتنظيم شؤون مواطنيها بوصفهم جمهوراً أو شعباً أو مواطنيين, يتمتع جميع إفراده بأهلية وقيمة واقعية واعتبارية متساوية في الحقوق الأصلية, وحماية بعضهم من بعض وتأمين حياتهم وصون سيادتهم بما يحقق استقرارهم ونماءهم وازدهارهم. يقول المستشرق لجرنز وويل «كم ألفاً من السنين بقيت هذه الحالة من الوجود (أي كون العرب يعيشون في (حالة حرب) دائمة سيخبرنا أولئك الذي سيقرأون أقدم سجلات الصحراء الداخلية، ذلك أنها تعود إلى أولهم لكن العربي عبر القرون كلها لم يستفيد حكمة من التجربة، فهو غير آمن أبداً ومع ذلك فإنه يتصرف وكأن الأمان خبزه اليومي؟».هكذا يعاود سؤال السياسي والسياسة الحضور كالجرح النازف ذلك لأن السياسة هي الزمن الذي لا يمر! وليس بمقدور أحد تجاوز استحقاقها أبدا، والسياسة تؤثر في حياة الناس بأشد مما تؤثر فيهم تقلبات الظروف الطبيعية: (المناخ والحر والبرد والخصب والجدب والعواصف والفيضانات والزلازل والبراكين …إلخ) حسب فاليري. وما نعيشه اليوم من شرور الفساد السياسي في غير قطر عربي في (فلسطين والعراق والجزائر ولبنان وليبيا والسودان وسوريا واليمن والصومال وغيرها لا يقاس بأي حال من الأحوال بما يمكن أن تفعله أي كوارث طبيعية محتملة. والوضع مرشح للمزيد في ظل هذه الموجة العاصفة من الحروب الطائفية التي تذكّر بحرب الثلاثين عاما في أوروبا التقليدية؟ فكيف تجاوزت الشعوب الأوربية حروبها الدينية وكيف استطاعت الصين الشاسعة تدبير شأنها السياسي العام بما مكنها من الاستقرار والنهوض والازدهار؟ وكيف تجاوزت الهند واليابان وكوريا وفيتنام وشعوب الآسيان معضلة السياسة وتعقيدها في مجالها السليم بقوة الدساتير والقوانين؟ هذه هي المسألة التي تستدعي التفكير في العلمانية بوصفة تقنية أو سمها ما شئت المهم أن تساعد في حل معضلة السياسة بوصفها الزمن الذي لايمر! فالوجود السياسي للناس ليس بمقدور أحد تجاوز استحقاقها أبدا. وكل ما يستطيعه الناس بازاء ذلك الوجود السياسي لهم هو تدبير أمره بجعله قابل للتقنين والسيطرة باقل خسائر ممكنة. الدول الأوربية وجدت في العلمانية تقنية سياسية ناجعة مجربة ومختبرة عبر ثلاثة قرون من التاريخ السياسي للدولة الحديثة ليس في أوروبا وأميركا فحسب بل في كثير من دول أسيا وأفريقيا وفي مجتمعات إسلامية مماثلة لمجتمعاتنا العربية الإسلامية، ومنها ماليزيا وأندونيسيا وتركيا وباكستان وغيرها. إذ أن الفصل بين المجال السياسي والمجال المدني يستلزم بالنتيجة استقلال المجال الديني عن هيمنة السياسي، وبهذا تكون العلمانية ليس كما جرى ويجرى تصويرها بوصفها ضد الدين والتدين بل هي في حقيقة الأمر تحرير المقدس من تبعيته للمدنّس واستعادة روح الدين الإسلامي الحقة الذي جاء رحمة للعالمين ومتمماً لمكارم الأخلاق بما حمله من تعاليم وقيم إنسانية سامية كما قال سبحانه وتعالى “يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا” (الحجرات الآية 13) أو “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” (سورة النحل الآية 125)، “ولا تجادلوا أهل الكتب إلا بالتي هي أحسن” (العنكبوت الآية 46)، أو ما جاء في السنة الشريفة “لا يرحم الله من لا يرحم الناس″، “لا يحل لمسلم أن يروّع مسلماً” وغير ذلك مما احتواه الدين الإسلامي الحنيف من قيم تحث على الرحمة واللطف والصفح والرفق والإنصاف والعدل والاعتراف والتسامح والتصالح والعفو والإيثار والتعاون والتضامن والشفقة والمودة والعطف والمحبة والصبر والحلم والحكمة والتفكير والتبصر والتواضع والبشر وإفشاء السلام وعدم الغضب ونهى عن الغيبة والنميمة وسوء الظن والكذب والخداع والسب والتنابز بالألقاب والكبر والغرور والتطرف والتعصب والجهل والعنف والغدر والتعذيب والتمثيل.. الخ. هل أكتمل النهار وحان المساء كي تطلق ميرفا جناحيها للريح لرؤية العالم بعيونها الزرقاء؟ وإذا كانت أوروبا المسيحية قد استلهمت قول المسيح( اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله) فلما لم يستلهم العرب قول الرسول الكريم ( أنتم أعلم بشؤون دنياكم) المسالة ليست ايديولوجية ومنكاكفة وصراع مصطلاحات بل هي أهم واخطر مشكلة حيوية في حياة المجتمعات البشرية. فكيف استطاعت معظم بلدان العالم المستقرة اليوم تجاوز هذه المعضلة؟ ومنها الصين والهند واليابان وروسيا ودول الآسيان ودعكم من أوروبا وعلمانيتها التي

ارتبطت بالاستعمار؟ اليس من حق الشعوب العربية أن تعيش وتستقر وتزدهر في مجالها الحيوي الجغرافي السياسي الثقافي مثل سائر شعوب الكوكب الأرضي؟ وكيف يمكن حل أزمة سقوط الدول في العراق وليبا ولبنان واليمن وعودة المليشيات الطائفية؟ حروب دينية طائفية عشائرية جهوية سياسية مستعرة في كل مكان (شيعية، سنيه مسيحية، عربية كردية، في العراق وسوريا. ومسيحية، شيعية، سنية، درزية، في لبنان. وزيديه، حوثية، اثنا عشرية، سنية، سلفية، عشائرية، جهوية في اليمن، ولغوية أثنية عربية، أمازيغية بربرية إسلامية في الجزائر، ومسيحية إسلامية، جهوية في السودان، وعشائرية طائفية مناطقية في ليبيا.. الخ) يحتدم كل هذا في فضاء ثقافي نفسي مشحون بعنف مادي ورمزي، وهستيريا عصابية جماعية عدائية شديدة التحريض والانفجار ( دواعش روافض، نواصب خوارج، مجوسية، صفوية، قاعدة، أنصار الشريعة، شيعية، حزب الله، أنصار الله، داعش والنصرة.. إلخ). والسؤال الملح هنا والآن هو ما الذي جعل هذا التنوع الهوياتي في المجتمع العربي الإسلامي يتحول إلى شر مستطير، بينما هو في مجتمعات كثيرة أخرى مصدر قوة ودليل صحة وعافية كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأميركا وأثيوبيا وغيرها من الدول التي تضم طيفا واسعا من الهويات (ديانات، أقليات، أعراق، إثنيات، لغات، طوائف، ملل، نحل، ومذاهب وما لا يعد ولا يحصى من الجماعات الثقافية المتنوعة) السنا أكثر الشعوب حاجة إلى تقعيد السياسية في مجالها المستقل بدلا من تركها على حل شعرها تفتك بنا وتمزق وجودنا وتشتت شملنا؟ فما الذي يدفع الناس إلى تبديل هوياتهم وإنشاب مخالبهم في بعضهم بعضا تحت راياتها وبتحفيز منها كسراطين البحر حتى الموت؟! وهنا يلزمنا النظر إلى العنف حينما يكون مقدسا، إذ أن الصراع حينما يكسب صفة مقدسة، (دينية أو أيديولوجية) يتحول إلى ثأر مزدوج جاهلي وعصبوي ديني، وربما كان الثأر من بين جميع مظاهر العنف هو أخطرها على الإطلاق، ذلك لأن (الثار الحر) يشكل حلقة مفرغة وعملية لامتناهية ولا محدودة، ففي كل مرة ينبثق منها من أيّ نقطة ما من الجماعة مهما تكن صغيرة، يميل إلى الاتساع والانتشار (كالنار في الهشيم) إلى أن يعم مجمل الجسد الاجتماعي، ويهدد وجوده بالخطر. وهذا ما نراه ماثلا اليوم في العراق، حيث يصف (المالكي حربه مع داعش بثارات الحسين) ومن المعروف في مثل هذه الحالات كيف أن أقل عنف يمكن أن يدفع إلى تصاعد كإرثي، ومشهد العنف له شيء من (العدوى) ويكاد يستحيل أحيانا الهروب من هذه العدوى، “فاتجاه العنف يمكن بعد التمحيص يظهر التعصب مدمرا كالتسامح، وعندما يصبح العنف ظاهرا، يوجد أناس ينساقون إليه بحرية وحماس، ويوجد آخرون منهم يعارضون نجاحاته ولكنهم أنفسهم، غالبا الذين يتيحون له النصر” وفي ظل غياب مؤسسة محايدة للعدالة، أقصد الدولة الحديثة القائمة على الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية) واستقلال المجالات، (السياسي والديني والمدني والاقتصادي والثقافي والعلمي.. الخ) فيستحيل إيجاد وسيلة ناجعة يمكنها السيطرة على ظاهرة الحروب الطائفية المشتعلة اليوم في معظم المجتمعات العربية. من لديه مقترح لحل هذه المعضلة بدون العلمانية فلا يسعفنا به.

ختاما من يرفضها يتأبط شرا


العلمانية لا تعني ابدا فصل الدين عن الدولة بل تعني فصل المذاهب والعقائد والطوائف والايديولوجيات والاتجاهات والهويات والمرجعيات الدينية والقبلية والعشائرية والطائفية عن السلطة السياسية داخل الدولة ذاتها بوصفها مؤسسة جامعة لجميع مواطنيها بغض النظر عن معتقداتهم الدينية وتوجهاتهم الأيديولوجية وانتمائتهم الطائفية وهوياتهم العشائرية والقبلية ولا فضل لمواطن على أخر بالمذهب والاعتقاد والرأي والملة والطائفة والقبيلة والعشيرة؛ القانون هو سيد الجميع في أوطانهم ودولهم العلمانية العدالة المستقرة. ومن يرفضها يضمر السوء بمواطني بلاده.