آخر تحديث :السبت-04 أكتوبر 2025-02:31ص

الوهابية : الهُويَّة الدِّينيَّة بينَ إسلامِ الأُمَّة وإسلامِ الجماعَة

السبت - 04 أكتوبر 2025 - الساعة 01:20 ص

د. لمياء الكندي
بقلم: د. لمياء الكندي
- ارشيف الكاتب


بعدَ عهدِ الخليفةِ الثالث ، اختلط التاريخُ الدينيُّ في الإسلامِ بالتاريخِ السياسيِّ، الذي قدَّمَ نفسَه على أنَّه يُمثِّل الصيغةَ التفاعليَّةَ الحقيقيَّةَ المعبِّرة عن الإسلام.


وكان لظهورِ مذاهبِ التشيُّعِ وانتشارِها أكبرُ الأثرِ في انبثاقِ حركاتٍ سياسيَّةٍ في صميمِها، إسلاميَّةٍ في شعارِها، تسعى إلى الحكمِ وتُفشِل الحكوماتِ، تدعو لقيامِ هذه وتتبرَّأ من تلك، تحتَ معنىً عقائديٍّ يتَّخذُ من التشيُّع وموالاةِ آلِ البيتِ النبويِّ شعارًا له، ويَعتبِرُ حكمَهم والانتظامَ في طاعتِهم أصلًا من أصولِ هذا الدِّين.


ولكي يُثبت المتشيِّعون – قُدماءً وجُددًا – عبرَ التاريخِ أحقِّيَّتَهم بالحكمِ وبالوصايةِ على الدِّين، كان لا بُدَّ من ظهورِ طبقةٍ عاميَّةٍ واسعةِ الانتشارِ، بالغةِ التأثيرِ، لا تملك مطامعَ خاصَّةً ولا منافسةً في الحكمِ، يسهل انقيادُها وتلقينُها وتشكيلُ عقيدتِها وفقَ نظريَّةٍ تشيُّعيَّةٍ تطوَّرت في أوهامِها وممارساتِها ومعتقداتِها مع الزمن، لتشكِّلَ نسخًا متشابهةً، متماهيةً مع إرثٍ فكريٍّ وعقائديٍّ فارسيٍّ – مجوسيٍّ قديمٍ، يعود إلى عصورِ ما قبل الإسلام، جرى توظيفُه في ظلِّ الدولةِ الإسلاميَّةِ على اختلافِ أنظمتِها.


وكانت تلك الدول تمنحُ – عبرَ تشريعاتِها – قداسةً سلاليَّةً للعِرقِ الهاشمي، وبالأخصِّ العلويِّ الحسنيِّ والحسينيِّ، وتخصُّ العناصرَ المنتميةَ إليه بامتيازاتٍ سياسيَّةٍ واجتماعيَّةٍ، ما جعلَها طبقةً متميِّزةً عن سائرِ أبناءِ الدولةِ الواحدة.


ولتثبيتِ هذه الرؤيةِ، كان لا بُدَّ من استدعاءِ الخرافةِ بوصفِها منهجًا يسيرُ حركةَ التاريخِ والدِّينِ في المنطقة، مرتكزةً على:


خُرافةِ اختلاقِ الأحاديثِ النبويَّةِ في فضلِ آل البيتِ ومكانتهم، وما يتعلَّقُ بولائهم وأحقيَّتهم وأفضليَّتِهم.


خُرافةِ التأويلِ كتفويضٍ إلهيٍّ اختصَّ به المنتسبون إلى آلِ الحسنِ والحسينِ لتفسيرِ القرآنِ وشرحه.


خُرافةِ الكراماتِ والمقاماتِ والرؤى والمناماتِ، وجعلِها دليلًا على مكانةِ هذه السلالةِ.


خُرافةِ التوسُّلِ بالأحياءِ والأمواتِ من آل البيتِ، واتخاذِ قبورِهم منازلَ تُقصَدُ لنيلِ البركةِ وقضاءِ الحاجات، مع أنَّ اللهَ أقربُ إلى عبادِه من حبلِ الوريد.


لقد واجه الإسلامُ في القرونِ المتأخِّرة – بسببِ ضعفِ الدولةِ السنيَّة – حجمًا كبيرًا من التضليلِ الشيعي، الذي تعزَّز باعتمادِ الدولةِ الصفويَّةِ للمذهبِ الإماميِّ الاثني عشري مذهبًا رسميًّا لها، وبقيامِ دولةِ الأئمَّةِ الزيديَّةِ في اليمنِ بنسختِها القاسميَّة، وبقاءِ الدولةِ العثمانيَّةِ أسيرةً لطقوسٍ ومعتقداتٍ ذاتِ جذورٍ صوفيةٍ شيعيَّةٍ وسلوكيَّة.


وقد ساعد ذلك كلُّه على انتشارِ التشيُّعِ السياسيِّ والمذهبيِّ في المنطقة، ترافق معه استفحالُ الجهلِ وعودةُ الناسِ إلى عاداتٍ جاهليَّةٍ في التداوي والتبركِ ودفعِ الأذى، حتى انحرَفتِ العقيدةُ الإسلاميَّة، خاصَّةً مع بروزِ المخاطرِ الأولى للاستعمارِ الغربيِّ وتوسُّعِ خارطةِ تقاسمِ النفوذِ في العالمِ العربي، ما أدَّى إلى تغييبِ المؤسَّساتِ العلميَّةِ والفقهيَّةِ الرصينة.


في هذا السياقِ، وجدَ الشيخُ محمَّد بن عبدالوهاب نفسَه أمامَ بنيةٍ اجتماعيَّةٍ وفكريَّةٍ مشوَّهةٍ، تمارسُ الجهلَ باسمِ الدين، وتنشرُ التجهيلَ تحت غطاءِ الإسلام. فقد عادت البدعُ والخرافاتُ والعقائدُ الباطلةُ، حتى صار المسلمون يمارسون عباداتٍ شركيَّةً لم يُنزِل اللهُ بها من سلطان، قائمةً على جهلٍ أحيانًا، وعلى تسييسٍ متعمَّدٍ أحيانًا أخرى بغرضِ نشرِ المذهبِ الشيعي حيث يسودُ الجهل.


وقد وجدَ الشيخُ محمَّد بن عبدالوهاب في الأميرِ محمَّد بن سعود سندًا قويًّا لدعوتِه السلفية على مذهب أهل الحديث والأثر ، التي تميَّزت بكونِها دعوةً لإحياءِ التوحيدِ الخالص، وتنزيهِ اللهِ تعالى عن كلِّ صورِ الشركِ. فكانت دعوتُه قائمةً على محاربةِ القبورياتِ، ورفضِ تقديسِ البشرِ، ونفيِ قُدرتِهم – أحياءً أو أمواتًا – على النفعِ أو الضرِّ، وتحريمِ التوسُّلِ بهم أو الاتجاهِ إلى قبورِهم ومساجدِهم بقصدِ التبركِ والدعاءِ.


لقد اختصرَ ابنُ عبدالوهاب طبيعةَ دعوته في كلمةِ التوحيد: «لا إلهَ إلَّا اللهُ محمَّدٌ رسولُ الله»، متمسِّكًا بالمعنى الحرفيِّ للتشريع، ورافضًا التأويلاتِ الخارجةَ عمَّا دعا إليه اللهُ ورسولُه، وما ثبَتَ من الأثرِ النبويِّ الصحيح، محاربًا البدعَ والأساطيرَ والتنجيمَ والشعوذةَ.


وهكذا حمل دعوةَ التوحيدِ، وجعل من تحالفِه مع آل سعود وسيلةً لرفعِ رايتِها، حتى نصرَ اللهُ بها دينَه.


وعلى مدى ثلاثةِ قرونٍ، أسَّستِ الوهابيَّةُ واقعًا إسلاميًّا مغايرًا، جسَّدت فيه حقيقةَ الإسلامِ كدينِ أُمَّةٍ، لا كدينِ جماعةٍ، خلافًا للجماعةِ الهاشميَّةِ التي سعت عبرَ العصورِ إلى حصرِ الإسلامِ في سلالتِها وأئمتِها.


وقد واجهت دعوة بن عبدالوهاب ذلك في نجدٍ والحجاز، حتى قيَّض اللهُ الملكَ عبدالعزيز آل سعود ليحرِّرَ الحجازَ ونجدًا، ويؤسِّسَ المملكةَ العربيَّةَ السعوديَّة، حاضنةَ أقدسِ بقاعِ الأرض، مكَّةَ والمدينةَ.


وكان هذا التحريرُ بمثابةِ تحريرٍ للعقلِ العربيِّ والإسلاميِّ من الانحرافاتِ العقديَّةِ التي رافقَته قرونًا طويلة.


لقد واجهت دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب – باعتبارِها إسلامَ الأُمَّة – مشاريعَ إسلاميَّةً حديثةً متعدِّدةً حاولت أن تضعَ مفهومًا خاصًّا للإسلامِ يميزُها عن غيرِها، مثل: المهديةِ في السودان، والدولةِ الزيديَّة القاسميَّة في اليمن، والجماعاتِ الصوفيَّة، وحركةِ الإخوانِ المسلمين (1928)، وجماعة التبليغِ ، فضلًا عن الحركاتِ الشيعيَّةِ الثوريَّة المتأثِّرة بالثورةِ الإيرانيَّة، ومنها الحوثيَّة كامتداد للزيدية في اليمن.


وقد اشتركت هذه الحركاتُ في نشرِ مفهومِ «إسلامِ الجماعة داخل المجتمع وأسقطت عليه آيات وأحاديث الولاء والبراء»، أي الإسلام الخاصِّ بفصيلٍ أو تنظيمٍ، ما أدَّى إلى صراعاتٍ وتنافرٍ مع بقيَّةِ المسلمين داخل المجتمع المسلم.


وأمامَ ذلك، تفردت الوهابيَّةُ بكونِها تُعبِّر عن «إسلامِ الأُمَّة» الذي لا يحتاجُ إلى سلطةٍ قهريَّةٍ لفرضِه، بل ينتشرُ حيثما وجدَ المسلمون.


فهي لم تسعَ للحكمِ باسمِ الإسلام، بل لنشرِ التوحيدِ الخالص ورفضِ مظاهرِ الشركياتِ والقبورياتِ، ومحاربةِ التشيُّعِ السياسيِّ والدينيِّ، لتظلَّ براءةً إلى اللهِ ورسولِه من التجهيلِ باسمِ الدين، واستعادةً للإسلامِ في صورتِه الجامعة، إسلامِ الأُمَّة، لا إسلامِ الجماعة.