في زمنٍ يزدحم بالأسئلة عن مستقبل الحضارة الغربية، يطلّ أمين معلوف بكتابه “متاهة الضائعين.. الغرب وخصومه” ليضع إصبعه على جرح عميق: هل نحن أمام أفول الغرب أم أمام تحوّل جديد في مسار البشرية؟
هنا محاولة لالتقاط أبرز أفكار معلوف وإعادة طرحها بصياغة أسئلة مفتوحة تلامس حاضرنا وتثير قلقنا: أين يقف الغرب اليوم؟ ومن يملك فعلاً القدرة على إنقاذ العالم من متاهته
……………………………….
1- متاهة الغرب وخصومه!
• هل يمر الغرب بمرحلة تراجع؟
يجيب أمين معلوف على السؤال بنعم.
يتجلى التراجع في أكثر من جانب: سياسي، وأخلاقي، واجتماعي.
يحتفل خصوم الغرب (شرقاً وجنوباً) بتراجع الغرب، لكن خصوم الغرب الأشداء (الصين وروسيا) يعانون إخفاقاً وتراجعاً أخطر وأعمق.
• قاد الغرب العالم للخروج من متاهتين عظيمتين في القرن العشرين: متاهة الحربين العالميتين التي خرج منها إلى مواثيق حقوق الإنسان والسلام وتحديد المصير. ومتاهة الحرب الباردة التي خرج منها إلى مرحلة الديمقراطية والليبرالية والرأسمالية، كأفضل نظام متاح “ومجرّب” لإدارة النزاعات وبناء المجتمعات.
لكن هذه النماذج اليوم فقدت فعاليتها. والغرب وخصومه عاجزان عن إخراج أنفسهم وإخراج بقية البشرية من المتاهة.
• رغم هذا، يرى معلوف أن الغرب هو المرشّح الوحيد، مرة أخرى، لإنقاذ العالم. لكن لا أحد يعرف متى وكيف يخرج الغرب من متاهته الخاصة ليتمكّن بعدها من مساعدة الآخرين.
• ورغم خطورة تراجع الغرب على نفسه وعلى العالم، يشعر الكثيرون بالراحة وهم يشاهدون الغرب يتخبّط في أزماته، لأن ذلك يطمئنهم أنهم لم يعودوا وحدهم فاشلين!
وأن الأزمات والخيبات التي يواجهونها في بناء أممهم لم تعد أزماتهم وحدهم.
• بين الغرب (أوروبا وأمريكا) وخصومه الكبار (الصين وروسيا) يتفرج باقي الجنوب (نحن العرب خاصة) على المشهد بين مؤيد لهذا أو ذاك. لكن خطاب خصوم الغرب ينتشر عربياً وعالمياً. ولعله من الساخر أن البعض اليوم يرون الخلاص في سيطرة قوة عظمى جديدة أقل عنفاً وأقل استهزاءً بنا وأقل استفزازاً لخيباتنا وتخلّفنا. قوة تطوّق أعناقنا بقيد أخف وزناً ووطأة!
• لكن روسيا كانت دوماً غربية واستعمارية. فكيف تم “شرقنة” روسيا وسحبها من غربيتها إلى الشرق؟ وكيف تم تجاهل استعمارية روسيا التاريخية الطويلة ووضعها في صف مساندة المستضعفين؟!
………………………………..
2- كيف تمت “شرقنة” روسيا الغربية ونسيان ماضيها الاستعماري
• منذ عصر الاكتشافات ظل الغرب يصعد وينتصر على كل خصومه في العالمين القديم والجديد.
وظل الشرق والجنوب يرى في الغرب القوة التي لا تُقهر. وهو شعور خلق داخله مركباً معقداً من الحب-الكراهية تجاه الغرب المتقدّم دائماً والمنتصر دائماً.
لكن عام 1905 حدث أول انتصار للشرق على الغرب. كانت القوة الشرقية هي اليابان والقوة الغربية الاستعمارية هي روسيا القيصرية.
• استطاعت اليابان هزيمة روسيا وتدمير أسطولها البحري وانتزاع السيطرة على الجزر المتنازع عليها، وإجبارها على التخلي عن بعض نفوذها الاستعماري في كوريا والصين.
كان الخبر صدمة مدوّية للعالم انتقل دويُّها إلى صحافة العالم وشعره وأدبه، بما في ذلك الأدب العربي الذي ازدهر بقصائد عمودية تغنّت بالنصر الآسيوي الأول على أوروبا منذ قرون.
ساعتها كان الملوّنون من الصفر والسمر والسود يرون روسيا إمبراطورية استعمارية غربية، ويرون الروسي تمثيلاً لعنجهية الرجل الأبيض.
كان الانتصار لحظة تطهير نفسي كونية رأى فيها الهندي والصيني والعربي والأفريقي واللاتيني قدرة الملوّن على المقاومة والانتصار.
كانت أول فرحة لهزيمة الغرب تلتها هزائم أخرى (فيتنام، حق تقرير المصير). لكن هزيمة الغرب لم تكن دائماً إيجابية (سيطرة الديكتاتوريات المحلية، الفوضى).
• ساعتها كانت اليابان “بطل العالم” الذي تعلقت أنظار وأحلام الشعوب المضطهدة به، ورأته قائداً للشعوب الآسيوية للتخلص من الاستعمار الغربي. وضع المسلمون أيضاً أملهم في اليابان حتى أن مسلمي سنغافورة ارتأوا إرسال وفد إلى إمبراطور اليابان لإقناعه باعتناق الإسلام، وليكون خلاص المسلمين على يد مسلم!!
• بعد ثورة 1917 في روسيا بدأت حركة مخاتلة لإعادة موضعة روسيا ونقلها من الغرب إلى الشرق من ناحية، ومن خانة المستعمر إلى خانة المناضل ضد الاستعمار من ناحية أخرى. وتم التغاضي عن الماضي الاستعماري الروسي في بولندا وأوكرانيا وبيلاروسيا وفنلندا ودول البلطيق وآسيا الوسطى وسيبيريا ومنطقة القوقاز.
لكن حتى روسيا السوفييتية لم تستطع التخلي عن بعدها الاستعماري. واستعادت روسيا البوتينية الماضي الاستعماري الصريح كاملاً بتدخلاتها في منطقة جمهوريات السوفييت السابقة واحتلال أراضي الدول المجاورة، لتصبح روسيا آخر دولة استعمارية لا تزال تمارس الاستعمار بشكله التقليدي (احتلال الأرض).
• وكما قال معلوف، خاب أمل المستضعفين في اليابان التي تحوّلت هي نفسها إلى قوة استعمارية، كما خاب أمل من تعلقوا بآمال روسيا السوفييتية الغربية-الاستعمارية تاريخاً وسياسة.
ويبقى السؤال معلّقاً: هل يملك الغرب فرصة ثانية ليقود الخروج من هذه المتاهة، أم أن التاريخ يبحث عن لاعب جديد لكتابة فصله القادم؟