لا يمكن للجنوب أن يواجه خصومه، ولا أن يحمي قضيته، إن لم يُصلح البيت من الداخل أولًا.
الحق لا يُبنى على الفوضى،
ومن أخطأ يجب أن يحاسب ضمن منظومة قانونية مدنية واضحة، دون وبعيدًا عن تلك الفوضى المحكومة بالغضب وردة الفعل.
الاغتيالات والتصفيات، أيًّا كانت الذرائع، تمثل سقوطًا جماعيًا وانهيارًا لمشروع نحلم أن يكون مغايرًا، لا استنساخًا مشوهًا لماضٍ لفظته الشعوب.
مهما بلغ الإسفاف في تسجيلات الجردمي، ومهما كانت ألفاظه جارحة ومواقفه صادمة، فإن ما جرى له من تصفية جسدية داخل أحد مراكز الاحتجاز يُعد جريمة فادحة لا يُمكن تبريرها ولا يُقبل الصمت إزاءها.
كل تصفية تظل خارج القانون حتى بحق من تجاوز كل الخطوط، وهي إعلان عجز أخلاقي وانهيار لمفهوم الدولة والسلطة حين تكون هي الجلاد أو حين تصمت عن الجلادين.
وفي المقابل، كل خطاب منحدر مليء بالشتائم والتحريض لا يقل خطرًا، وهو الآخر شكل من أشكال التآكل الداخلي.
كلا المسارين – الفعل المليشياوي واللغة غير اللائقة – يُسهمان في قتل الروح المدنية للمشروع الجنوبي، ويقودان إلى سحب البساط الشعبي وقواعده الاجتماعية تدريجيًا.
ولا يمكن القفز على الحقيقة الأبرز؛
أن هذه الجريمة وقعت داخل نطاق سلطة المجلس الانتقالي، وبالتالي فإن المسؤولية السياسية والأخلاقية تقع عليه بالكامل.. لا على من نفذ لكن بالأحرى على من هيأ المناخ وسهل لفوضى من هذا النوع أن تتسيد.
المجلس، ببنيته الحالية، وبفوضى التشكيلات الأمنية والمؤسسات التي تتصارع أحيانًا أكثر مما تتكامل، لا يصنع مشروعًا لدولة إنما يحفر لنفسه حفرة يُساق إليها خطوة بعد أخرى، بفعل سياسات عشوائية وتراكمات غير محسوبة.
وهذا ما أصبح يلاحظه ويراه حتى الأعمى.
فما لم يواجه الانتقالي هذه الكارثة بشجاعة – لا بالإنكار والتبرير وتوزيع التهم – فإن ما جرى لن يكون سوى حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الانهيارات.
المطلوب اليوم تحقيق شفاف ومحاسبة معلنة تفتح الطريق أمام إصلاح بنيوي يبدأ من الأجهزة الأمنية ولا يتوقف عندها، قدر ما يجب أن يصل إلى قلب الثقافة السياسية التي تحكم أداء هذا الكيان.
قضية الجنوب مهما كانت عادلة لن تنتصر بالخطاب وحده، وشعارات المرحلة.
قد تحقق قضايا أقل عدالة انتصارًا حين يقودها من يمتلك الاستنارة والقدرة على الإدارة، بينما تخفق قضايا أعظم حين يتصدرها من يغرق في الحسابات الضيقة أو يغط في سبات عميق.
الجنوب لا ينقصه الحق لكن تنقصه قيادة أكثر ذكاء وحنكة وحسمًا، وبُنى سياسية وأمنية بيد قادة يعرفون معنى المسؤولية الملقاة على عاتقهم.
وما لم يبدأ التغيير من هنا والآن، فإن الضربات القادمة لن تكون عابرة، بل ربما تشكل في نهاية المطاف ضربة مؤلمة لحلم بدأ نقيًا أصيلًا محقًا مهمًا ويكاد يُجهض من داخله.