آخر تحديث :الأحد-25 مايو 2025-01:54ص

بين نقد الاستعمار وتقديس التخلف

الأحد - 25 مايو 2025 - الساعة 01:54 ص

حسين الوادعي
بقلم: حسين الوادعي
- ارشيف الكاتب


يسعى بعض المثقفين والكُتّاب والناشطين العرب اليوم إلى تمثيل دور “البطل الفكري” من خلال رفضهم الاستعراضي المتكرر لكل ما يمت بصلة إلى أفكار عصر التنوير: من العقلانية، إلى الديمقراطية، إلى حقوق الإنسان، إلى التفكير العلمي. وغالبًا ما يُغلّفون هذا الرفض بسردية درامية عن معارك يخوضونها ضد “المركزية الغربية” و”الاستعمار الفكري”، مُدّعين أن صمودهم أمام التيارات السائدة في الغرب هو تعبير عن شجاعة فكرية ومقاومة ثقافية.


لكن ما يُغفلونه – أو يُخفونه عمدًا – أن هذا التيار الناقد لقيم التنوير ليس خروجًا عن النسق الغربي، بل هو التيار الغربي المسيطر حاليا. فمنذ سبعينيات القرن الماضي، ساد في الفكر الغربي تيار نقدي واسع يُشكّك في أسس الحداثة الغربية ذاتها: في العقلانية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعلم. وأنتج هذا التيار ما نعرفه اليوم بـ”ما بعد الحداثة” و”ما بعد الكولونيالية”، وهي مدارس فكرية باتت تُهيمن على كبريات الجامعات الغربية، وعلى أغلب المجلات والمؤسسات الثقافية والفكرية.


بل إنه، وللمفارقة، أصبح من شروط القبول السهل في الأوساط الأكاديمية الغربية أن يبدأ الباحث أو المثقف مسيرته بـ”الرفض الاستعراضي” لقيم التنوير، مع الإشادة المجانية بكل ما هو غير غربي وغير حداثي، سواء كان من بقايا الثقافات الأصلية، أو من التراث الصوفي، أو من البدائل الإسلامية، أو حتى من أطراف معادية للعلم والعقل وحقوق الإنسان.


الأسماء التي تبنّت هذا الخطاب عديدة، لعل أشهرهم: وائل حلاق، وجوزيف مسعد، وجورج صليبا وخالد فهمي، وجميعهم تابعون مخلصون للتيارات الفكرية الغربية البيضاء الجديدة، لا متمردون عليها كما يزعمون. بل إن إخلاصهم لتلك “الموضات الفكرية” جعلهم يبالغون في مديح التخلف، والإشادة بأي نموذج غير غربي، حتى وإن كان متوحشًا، قمعيًا، أو مناهضًا للإنسانية.


هكذا نُصادف من يُقدّم حركة طالبان أو نظام الخميني كنماذج “ثورية” فقط لأنها ترفض قيم الحداثة. ونرى شخصيات فكرية، مثل جوديث بتلر، تضع حركات مثل “حزب الله” و”حماس” في خانة اليسار التقدمي العالمي. أما المفكر الفرنسي فرانسوا بورجا، فقد دافع طويلًا عن حركات الإسلام السياسي، معتبراً إياها التعبير الحقيقي عن “صوت الجنوب”، مقابل وصفه للمدافعين عن الديمقراطية والليبرالية في العالم العربي بأنهم “مثقفون مستلبون”.


لا مشكلة، بالطبع، في أن يختار أي شخص الانحياز إلى فكر معين أو إلى مشروع ثقافي بديل. لكن المشكلة الكبرى تكمن في ادّعاء البطولة والزيف، وفي الإسهام – عن وعي أو عن غير وعي – في تكريس أنظمة الاستبداد، والطائفية، والإقصاء، والقمع، التي نخرت أوطاننا العربية.

المشكلة أن يخفي مظهرك التقدمي البراق مشروعا رجعيا متوحشا.


فإذا أردت أن تُقدّم خدمة لأي نظام مستبد، فليس عليك سوى ترويج مقولة إن الديمقراطية وحقوق الإنسان والعقلانية “لا تناسب ثقافتنا”، وإن الحل يكمن في الانغلاق على ما يُسمى بـ”الخصوصية الثقافية”. ونعرف جميعًا أن هذه الخصوصية كثيرًا ما تُستخدم لتبرير التخلف، والظلم، وانتهاك الكرامة الإنسانية.


لست بحاجة للتذكير أن هؤلاء يعتمدون في أبحاثهم (الرافضة للهيمنة البيضاء!) على الدعم السخي المقدم من الحكومات الغربية والمليارديرات الغربيين.. ‏