آخر تحديث :الإثنين-19 مايو 2025-02:11ص

الله كما نراه: مرايا الإنسان في وجه الإله

الإثنين - 19 مايو 2025 - الساعة 02:08 ص

حسين الوادعي
بقلم: حسين الوادعي
- ارشيف الكاتب


المقارنة ظريفة بين تصور الإله عند الحضارة اليونانية والحضارة العربية-الإسلامية. فتصوّر الإنسان عن الإله محكوم ببيئته، واهتماماته، ونظرته إلى العالم.


من ناحيتهم، قدس اليونانيون التأمل الفلسفي والعقل، وآمنوا أن التفكير العقلي هو أسمى مراتب الفضيلة. ولذلك، حين صوّروا الإله، تصوروه على هيئة عقل. الفلاسفة الطبيعيون قالوا إن هناك “لوغوس” أو عقلًا كليًا يمنح النظام للعالم، أما أرسطو، صاحب أشمل تصور عن “المحرّك الأول”، فقد اعتبر الله عقلًا، وهذا العقل الكلي هو السبب في حركة جميع الموجودات في الكون.


ولأن "المحرك الأول"، بحسب أرسطو، عقل، فهو بالضرورة غير مادي. ولأنه السبب في نظام الكون فهو كامل. ولأنه قديم وأبدي، فإنه لا يتغيّر، وبالتالي لا يفكر أو يهتم بالأشياء المتغيرة، بل يفكر في ذاته الكاملة. وبما أنه عقلٌ كامل وأبدي، فهو ليس بحاجة إلى البشر، بل البشر هم من يحتاجون إليه. هم لا يعبدونه عبادةً شعائرية، بل ينجذبون إليه لأنه نموذج الكمال المطلق، والكائنات الناقصة تسعى دائمًا نحو الكمال.


إله اليونانيين هو في الحقيقة فيلسوف؛ إنه حالة إعلاء للفيلسوف إلى مصاف الخلود. إنه سقراط وقد تحوّل إلى عقل خالص، لامادي، أبدي. ولأن اليونانيين آمنوا أن المعرفة هي قمة الفضيلة، فإن الله بالتالي معرفة وفكر مطلقان؛ إنه “تفكير في التفكير”.


أما عند المسلمين، فسنجد تصورًا مختلفًا تمامًا. فالله في المخيال العربي الإسلامي هو ملكٌ-شيخ قبيلة بجمع بين القوة والحكمة والدهاء، حسب الصفات "المثالية " لملوك ذلك الزمن. من ناحية، هو قوي، شجاع، ومهيب، له عرشٌ يحمله ثمانية من الملائكة. لكنه أيضًا قوي، جبّار، وغاضب. وهذه ضرورات الحكم في عالم الحروب القبلية الدائمة. ولأن الشجاعة والقوة لا تكفيان للحكم، فالله العربي أيضًا عليم، حكيم، وماكر (بمعنى التدبير)، وهو واعٍ بما يدور حوله لئلا يفقد سلطته (سميع بصير). كما أنه أبٌ حنون أحيانًا على أولاده، وقاسٍ أحيانًا (يعزّ من يشاء ويذلّ من يشاء، يمنح ويعطي كما يشاء، ويمنع عندما يشاء).


وعندما حاولت بعض الفرق الإسلامية كسر هذا التصور استعارت من الفلسفة. المعتزلة قدّموا إلهًا مجردًا بلا صفات، يعلم الكليات لا الجزئيات، تجنبًا للتجسيم ولإثبات حرية الإنسان. أما الإسماعيليون فتبنّوا تصور أفلوطين المعدّل للإله الأرسطي، حيث الله عقل أول، تفيض عنه الكائنات كما تفيض الشمس بأشعتها، في محاولة للتخلص من فكرة التغيّر والشر.


وأنا هنا لا افضل تصورا للإله على آخر فجميعها (من ارسطو حتى ابن رشد) مبهرة روحيا لكنها مليئة بالثغرات والعيوب على المستوى العقلي.


عندما صعدت الجماعات الجهادية الحديثة، خرجت بتصوّر مختلف نسبيًا عن التصوّر التقليدي. فإله الجهاديين لم يعد الملك أو شيخ القبيلة العربي القديم، بل اخترعوا إلهًا سيكوباثيًا يشبههم تمامًا؛ متعطّش للإبادة، تحكمه رغبة في استعباد البشر جسدًا وروحًا، وإذلالهم، وتحويلهم إلى كائنات بلا عقل، بلا إرادة، ولا شعور.


عند جماعات الاسلام السياسي كالإخوان والخمينية، الله لم يعد ملكاً بل هو الحاكم المطلق totalitarian (المودودي كان يقول صراحة ان الله هو الحاكم الفعلي للدولة الاسلامية!) وهو المُشرّع والقائد في الحرب. انه "الأخ الاكبر" عند اورويل ! وهم صنعوه نسخة منهم ( ستالين إلهي) محكومين بعطش لا يرتوي للسلطة، واختزال للدين والدنيا في كرسي الحكم.


ظهرت في التاريخ الحديث تصوّرات علمانية وإنسانية عن الإله، مثل إله سبينوزا وإله نيوتن واينشتاين. وربما لا نعرف على وجه اليقين ما هو الله، لكننا بالتأكيد نعرف الكثير عن أنفسنا من خلال تصوراتنا عنه.