أعلن “الحوثيون” في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 استيلاءهم على سفينة شحن إسرائيلية في البحر الأحمر. وبثَّ الإعلام الحربي التابع لهم يومها مشاهدَ تظهر إنزالَ قواتٍ عسكرية من طائرة مروحية على سطح السفينة، وانتشارَها فيها، ثم اقتحامَ غرفة قيادتها واستسلامَ طاقمها. بعدها قُيِّدت السفينة إلى الساحل اليمني، وقالت البحرية الأميركية إن العملية نُفذت على بعد خمسين ميلاً غرب ميناء الحديدة.
عقب ذلك، وخشيةَ عملية إنزال أميركية لاستعادتها، استقدمت جماعة “الحوثي” قواتٍ واستحدثت تحصيناتٍ بحرية عسكرية لحماية سفينة الشحن “جالاكسي ليدر” المحتجزة لديها في محافظة الحديدة المطلة على البحر الأحمر. ويُذكر أن الجماعة استولت على السفينة “Galaxy Leader” اليابانية، المملوكة جزئيًّا للملياردير الإسرائيلي أبراهام أونغار، واقتادتها إلى سواحل الحديدة نصرةً للفلسطينيين.
ومنذ تشرين الثاني/نوفمبر 2023، شنَّ “الحوثيون” هجماتٍ على سفن تجارية في البحر الأحمر وخليج عدن انطلاقًا من مناطق سيطرتهم في اليمن، فيما يرون ذلك دعمًا للفلسطينيين. وبعد عام وشهرين على احتجازها، أعلنت الجماعة في 22 كانون الثاني/يناير 2025 إفراجَها عن طاقم السفينة “Galaxy Leader”.
فكيف تفاوض “الحوثيون” سرّيًّا مع إسرائيل للإفراج عن طاقم الباخرة؟ ولماذا فشل التفاوض؟ وكيف تُهدّد العمليات الإرهابية الحوثية في البحر الأحمر الأمنَ القوميَ اليمني؟
تفاوض “الحوثيّين” مع إسرائيل
كشفت وثائق نشرها الرئيس السابق للهيئة العامة لحماية البيئة، عبد القادر الخراز، عن مفاوضاتٍ مباشرةٍ جرت بين قياداتٍ في جماعة “الحوثيّين” ووفدٍ من الشركة المشغّلة لسفينة الشحن الإسرائيلية “Galaxy Leader”، التي احتُجزت في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، مقابل دفع فديةٍ ماليةٍ للإفراج عن طاقمها.
أشخاص يتجولون على ظهر السفينة التجارية جالاكسي ليدر، التي استولى عليها الحوثيون اليمنيون الشهر الماضي، قبالة ساحل الصليف، اليمن، في 5 ديسمبر/كانون الأول 2023. تصوير: خالد عبد الله – رويترز
تواصل “الحل نت” مع الدكتور عبد القادر الخراز، الذي كشف عدّة تفاصيل حول حقيقة هذا التفاوض والابتزاز السياسي الدولي، فقال:
“قامت الميليشيا الحوثيّة بالتنسيق مع شركة التأمين الخاصة بالسفينة Galaxy Leader ، المسماة Rai Carriers، لترتيب عملية تبادل رهائن ودفع فدية قبل إطلاق طاقم السفينة. ويمكن اعتبار ذلك نوعًا من الابتزاز السياسي في معركة البحر الأحمر. وقد أشرنا في أكثر من تقرير، ابتداءً من غرقَ الباخرة Ruby Mar وحتى مفاوضات دفع فديةٍ للإفراج عن طاقم Galaxy Leader ، إلى الوثائق التي دخلَ عبرها ممثلو الشركةَ المشغّلة إلى اليمن والتقوا بالحوثيّين بسريةٍ تامّة، مما يؤكد طبيعة الابتزاز”.
بحسب الخراز، فقد قُدّم طلب التأشيرة أولًا فُرفض، ثم تم التلاعب بطلبٍ ثانٍ عبر السفارة اليمنية في إثيوبيا. ونشرنا أسماءَ الأفراد الذين دخلوا: الأول بريطانيٌّ يُدعى مايكل، رقم جواز سفره (128802471) صادرٌ في شباط/فبراير 2020، والآخر أوغنديٌّ يُدعى الحاج حبيب، مالك شركة “نما سجما”، رقم جوازه الدبلوماسي (D00000008) صادرٌ في آب/أغسطس 2023. وذكرت إحدى المذكرات أنه ضمن طاقم “Galaxy Leader” جنسيته أوغندية رغم عدم وجوده فعليًّا في الطاقم؛ وذلك لتبرير دخوله.
ولإتمام العملية بسرية، أدارها مكتب محاماة باسم “شداد للمحاماة” بزعامة ما يُدّعى أنه المحامي عبدالله سلطان شداد، الذي يمتلك أيضًا مؤسسة مجتمعٍ مدنيٍّ باسم “حماية القانون وتعزيز السلم الاجتماعي”، وهي منظمةٌ مزعومة للعمل في مجال السلام. وجرت ترتيبات دخول المذكورين عبر هذه المؤسسة. وفي الوثيقة الأولى من مكتب شداد، طُلبت تأشيرات لهم بحجة انتمائهم للشركة المشغّلة، وفي المذكرة الثانية ورد أنهم مستثمرون، بزعم أن مؤسسة المجتمع المدني تدعو المستثمرين الأجانب للاطلاع على فرص الاستثمار في اليمن.
لدينا معلومات مؤكدة بإطلاق سراحهم بعد التفاوض وحصول “الحوثيّين” على الأموال، رغم إعلان وسائل الإعلام أن الإفراج كان “لنصرة القضية الفلسطينية”.
وفي هذا الصدد، يعلق عادل الأحمدي، رئيس مركز “نشوان الحميري” للدراسات والإعلام، في حديثه مع “الحل نت”: “كل أفعال الحوثيّين وممارساتهم دليلٌ على كونهم جماعة إرهابية وقراصنةَ يستخدمون السلاحَ والاختطافَ للابتزاز والتهديد، كنهجٍ فكرٍ عميلٍ للخارج ومغتصبٍ للسلطة مرفوضٍ من المجتمع. وبالنسبة للمفاوضات أو الاتصالات مع الشركة المالكة أو المشغّلة للسفينة، فهذا واردٌ جدًّا خاصةً مع جماعةٍ متطفلةٍ تعيش على الابتزاز السياسي”.
الابتزاز السياسي
ويواصل الخراز حديثه مع “الحل نت” قائلاً: “بعد هذه المفاوضات التي نجحت في تسليم فديةٍ ماليةٍ غير معلنةٍ وبسريةٍ تامّة، جرت بعد ذلك مفاوضاتٌ للإفراج عن السفينة. ووفقا لمصادرنا الخاصة، عرضت الشركة المشغّلة لـ Galaxy Leader مبلغَ 2 ملايين دولارٍ، لكن الميليشيا الحوثية رفضت وطلبت 10 ملايين دولارٍ. وحتى أحد الوسطاء ذكر: الأفضل لهم أيُّ ملاك السفينة شراء باخرةٍ جديدةٍ بهذا المبلغ”.
واستمر التفاوض حول قيمة الفدية، فأُفشلت الصفقة، ثم قامت إسرائيل بضرب السفينة قبل عدّة أيامٍ، وضاعت بذلك فرصتهم. ويُظهر هذا مدى كذب الميليشيا الحوثية فيما يتعلق بنصرة القضية الفلسطينية؛ فالموضوع في الجوهر ابتزازٌ ماليٌّ وسياسيٌّ لا مبدأ لهم فيه سوى البحث عن المكسب. فتستغل جماعة الحوثي ذريعةَ نصرة غزة لابتزاز العالم، وساهم ذلك أيضًا في تلويث البحار والسواحل اليمنية، وهي إشكاليةٌ بالغةٌ الخطورة.
ويواصل الخراز حديثه مع “الحل نت” قائلاً: “هذه الوقائع التي ذكرتُها ليست تهديدًا للأمن القومي اليمني فحسب، بل للأمن الدولي والإقليمي للدول المطلة على البحر الأحمر — مصر والسعودية والسودان وإريتريا وجيبوتي — وكذلك للملاحة الدولية. فقد عطّل هذا الابتزاز الملاحة وأعاق حركة السفن حتى في قناة السويس”.
ثمة مخاطر جسيمة على الأمن القومي اليمني بوجهٍ خاص؛ فجماعة “الحوثيّ” تسببوا في مشاكل كبيرة للبنية التحتية والموانئ التي هي ملك للدولة والشعب اليمني، إذ تعرّضت إلى استهدافٍ متكررٍ في سياق هذا الصراع. ولا يهمّ “الحوثيين” سوى تحصيل الأموال التي تمكّنهم من دعم جبهتهم واستكمال دعم المحور الإيراني. حتى أنّ تحرّكاتهم الأخيرة جاءت لتخفيف الضغوط عن إيران وبرنامجها النووي، فبعد الاتفاق مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب على وقف الهجمات في البحر الأحمر، استأنفوها مجدّدًا، وهي إشكالية أخرى تكشف عن عجز إقليمي ودولي.
ويعلق عادل الأحمدي، رئيس مركز “نشوان الحميري” للدراسات والإعلام، قائلًا: “فيما يخصّ تهديد الأمن القومي، يشكّل الحوثيون بوجودهم خطرًا على الأمن القومي اليمني والمصري والعربي؛ فكل ممارساتهم في البحر تلحق الضرر بمصر وقناة السويس ولا تخدم غزة، وآخر دليل على ذلك تفاوضهم مع الشركة المشغّلة للسفينة. ويجب على الحكومة اليمنية وداعميها أن يحرصوا على عدم تمكين الميليشيا من تحقيق أي مكاسب من هذا الابتزاز، مع مراعاة الجانب الإنساني لإطلاق سراح المخطوفين. وينبغي أن تتولّى الأمم المتحدة الاتصالات بهذا الشأن، بإشراف الحكومة اليمنية. كما يجب قطع دابر التهديدات المستمرة بالعزم على دعم الحكومة اليمنية لتحرير المناطق الخاضعة للحوثيين وقهر هذه الجماعة الإرهابية عسكريًا”.
ويختم الدكتور عبد القادر الخراز حديثه مؤكّدًا سلامة مصادره وصدق وثائقه، قائلاً: “أكبر دليل على صحة الوثائق هو عدم تعليق الميليشيا الحوثية عليها، رغم طلبات عديدة للتعليق أو النفي. وفي الفترة المقبلة، سنقدّم مزيدًا من الوثائق التي تكشف كذبها وتضليلها، حين نراعي أمن المصادر”.