في وقت يواجه فيه اليمن تحديات مائية متزايدة بسبب الجفاف وشح الأمطار، يعود الضوء مجددًا إلى الإرث الهندسي العظيم الذي تركه الأجداد، من سد مأرب العظيم إلى صهاريج عدن التاريخية، باعتبارها شواهد حية على عبقرية اليمني في تسخير الطبيعة لمواجهة قسوتها.
تميّز اليمن القديم بتشييد منظومات مائية متطورة استغلت مياه الأمطار الموسمية، في ظل غياب الأنهار، لتتحول البلاد إلى جنة زراعية أطلق عليها الإغريق "العربية السعيدة".
وقد أسست حضارات سبأ وقتبان ومعين وحضرموت سدودًا وقنوات وخزانات جبليّة، ظلت لألفيات تُروى بها الأراضي الزراعية.
ووفقًا للمصادر التاريخية، برع اليمنيون في إنشاء منشآت ضخمة بحسابات هندسية دقيقة، جمعت بين الوظيفة الجمالية والبُعد العملي، فحوّلوا الوديان إلى شرايين حياة دائمة الجريان.
يقع سد مأرب على بعد 4 كيلومترات غرب المدينة، ويُعد من أعظم إنجازات حضارة سبأ في القرن الثامن قبل الميلاد. شُيّد على وادي أذنة، ويُعتقد أن بناءه بدأ في عهد الملكة بلقيس.
وبعد قرون، أعاد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بناء السد عام 1984، فيما تم توقيع اتفاقية لتنفيذ المرحلة الثانية من المشروع في 2002 بتكلفة بلغت نحو 88 مليون درهم إماراتي.
وتصل مساحة بحيرة السد اليوم إلى 30 كيلومترًا مربعًا، بسعة تخزينية 400 مليون متر مكعب، تسقي نحو 16 ألف هكتار من الأراضي الزراعية.
أنشأ اليمنيون القدماء في عدن نظامًا فريدًا لتخزين مياه الأمطار يعود إلى القرن الـ15 قبل الميلاد، تجسده صهاريج عدن الطويلة، التي امتصت مياه السيول الجارفة وحمت المدينة، كما ساهمت في تغذية الآبار الجوفية.
يُقدّر عدد الصهاريج الأصلية بنحو 55، بقي منها 18 فقط، وتبلغ سعتها الإجمالية نحو 20 مليون جالون. وتعد الصهاريج من المعالم البارزة في مدينة كريتر، حيث حُفرت في الصخور والتلال لتبقى حتى اليوم مثالًا على التكيف مع الجغرافيا القاسية.
في تجسيد لروح الأجداد، شرعت دولة الإمارات عام 2023 في بناء سد وادي حسان بمحافظة أبين، ليكون الأكبر في جنوب اليمن، بسعة تخزينية تبلغ 19.5 مليون متر مكعب، بهدف تنظيم الفيضانات وري الأراضي الزراعية.
ويستهدف المشروع، الذي يُنفذ على مرحلتين بتكلفة إجمالية 100 مليون دولار، خدمة نحو 13 ألف مزارع، مع تحسين الأمن المائي وتعزيز التنمية الزراعية.
إلى جانب سدود مأرب وعدن، تزخر اليمن بعشرات السدود القديمة مثل سد أضرعة، وهجر، ومطران، والتي ألهمت الحكومات الحديثة لبناء 11 سدًا جديدًا في مناطق متفرقة بين عامي 1985 و2004.
ورغم تقادم الزمن، لا تزال هذه الشواهد التاريخية تدعو اليمنيين اليوم إلى إعادة النظر في تقنيات الأجداد، كحلول واقعية ومستدامة لمواجهة أزمات المياه التي تضرب مدنًا وقرى بأكملها، وتُشكل فرصة جديدة لنهضة زراعية طال انتظارها.