من كتائب نخبوية وزوارق انتحارية إلى قواعد بحرية ومخابرات عابرة للحدود... هكذا بَنَت مليشيا الحوثي ترسانة ساحلية تُهدد أمن البحر الأحمر ومضيق باب المندب.
منذ سنوات، تسير مليشيا الحوثي في مسار استراتيجي واضح نحو عسكرة البحر الأحمر، في تحرك يتقاطع مع الطموحات الإيرانية لفرض النفوذ على واحد من أهم الممرات المائية الدولية.
التحرك لم يكن ارتجاليًا، بل نتاج خطة طويلة الأمد بدأت مع مطلع 2017، شملت إنشاء قوات بحرية عقائدية، وتأسيس قواعد لوجستية على امتداد الساحل الغربي، بإشراف مباشر من خبراء إيرانيين ولبنانيين وسوريين، وفقًا لما كشفه تحقيق استقصائي حديث نشرته منصة ديفانس لاين اليمنية المتخصصة في الشؤون العسكرية.
تقرير المنصة يكشف أن اتفاق ستوكهولم في أواخر 2018، الذي جمّد تقدم القوات المشتركة المدعومة من التحالف العربي إلى ميناء الحديدة، منَح الحوثيين فرصة ذهبية لإعادة ترتيب أوراقهم العسكرية، حيث بدأ العمل بهدوء على تأسيس ما يشبه "منطقة عسكرية ساحلية مستقلة"، يقودها القيادي البارز "يوسف المداني"، أو كما يُطلق عليه أنصاره "قنّاص السفن".
من الكلية البحرية إلى الزوارق الانتحارية
مع تعيين المداني قائداً للمنطقة العسكرية الغربية في أبريل 2017، بدأت الكلية البحرية في الحديدة بتخريج دفعات مقاتلين مؤدلجين، أشرف على تدريبهم ضباط حوثيون تلقوا تأهيلاً في إيران ولبنان، ورافقهم خبراء قدموا خصيصاً للمهمة من طهران ودمشق.
هؤلاء المقاتلون نُقلوا إلى وحدات متخصصة ضمن كتائب وسرايا نخبوية، تولت الانتشار على سواحل الحديدة وحجة، ضمن تشكيلات تمتد من الدفاع الساحلي إلى القوات البحرية، وخفر السواحل، بالإضافة إلى وحدات الطيران المسيّر والتصنيع الحربي.
التقرير يذكر أن الجماعة جهّزت القواعد البحرية في "الكثيب" و"عبس"، بالإضافة إلى مراكز تصنيع وتجميع للزوارق المفخخة والألغام البحرية، فيما بدأت فعليًا منذ نوفمبر 2023 بتنفيذ هجمات بحرية عبر الزوارق المسيرة، وصواريخ بحر-بحر، وطائرات مسيّرة انتحارية.
شبكة قادة بحرية وعسكرية محصّنة
إلى جانب المداني، يقود المنظومة الساحلية عدد من أبرز القيادات الحوثية، منهم:
منصور السعادي: رئيس أركان القوات البحرية، مصنّف على لوائح العقوبات الأمريكية والأممية، ويشرف مباشرة على برنامج التسليح البحري والتصنيع المحلي.
أحمد الزبيري: قائد العمليات البحرية.
عادل اللكومي: مسؤول الاستخبارات البحرية، يرتبط بجهاز الأمن الوقائي وينشط في ملفات المخابرات الإقليمية، ويُعتقد أنه نُقل مؤخرًا للعمل في المحطة الاستخباراتية للحوثيين في سلطنة عمان.
في خفر السواحل، يتربع اللواء شاهر القحوم على رأس الجهاز الأمني، ويتبعه قيادات أخرى مثل فهد العياني ويوسف شرف الدين، فيما يتخذ الجهاز من ميناء الصليف مقراً له، ويُنفذ دوريات بحرية بتمويل وتسليح إيراني مباشر.
تصعيد وتوسع.. وصواريخ في الأفق
الهيكل البحري لا يعمل بمعزل عن تشكيلات القوة الصاروخية والطيران المسيّر، فبحسب التقرير، تنشط في المنطقة الغربية وحدات إطلاق بحرية وجوية مدمجة، تتلقى أوامرها من قيادة "القوى النوعية" الحوثية، وتنفذ ضربات على أهداف بحرية وعسكرية، محلية وإقليمية.
وفي مراكز سرية على الساحل، تُجمع وتُطور الطائرات المسيّرة والزوارق المفخخة، تحت إشراف مستشارين فنيين وخبراء تصنيع عسكري من إيران، يشرفون كذلك على تدريب كوادر حوثية في التعامل مع الرادارات ومنصات التوجيه البصري، المستخدمة لاستهداف السفن.
الميدان البري: كتائب عقائدية في ثياب نظامية
التقرير يكشف عن هيكل ميداني هائل يضم عشرات الألوية البرية والدفاعية، منها:
ألوية مدرعة ومشاة منقولة من قوات الحرس الجمهوري السابقة.
"كتائب المهام الخاصة" و"ألوية تهامة"، ذات الطابع العقائدي الصرف.
"ألوية الساحل الغربي" و"ألوية الحسم"، التي تتوزع في مناطق الدريهمي وزبيد والتحيتا.
أما القيادة الميدانية، فتُقسم إلى محورين:
المحور الجنوبي: بقيادة محمد حميد الحوثي، نجل شقيق زعيم الجماعة.
المحور الشمالي: يقوده فاضل الضياني، أحد عرّابي التعبئة الطائفية.
الأمن الوقائي والمخابرات: دولة داخل دولة
ما وراء الأسلحة والتشكيلات، هناك هيكل استخباري متغلغل يقوده محمد علي الأسدي، مسؤول الأمن الوقائي في الساحل الغربي، ويُعرف بعلاقاته العميقة بأجهزة الأمن الإقليمي للحلفاء الحوثيين.
كذلك يعمل القيادي رياض بلذي على إدارة جهاز الاستخبارات العسكرية، ويعاونه عدد من الضباط، في شبكة معقّدة تربط العمل الأمني بالعقائدي والقتالي.
خاتمة: معسكر إيران على باب المندب
ما يكشفه هذا التقرير أن الحديدة لم تعد مجرد مدينة ساحلية، بل قاعدة متقدمة لطهران على البحر الأحمر، ومنصة تهديد مباشر لأمن الملاحة الدولية في مضيق باب المندب وخليج عدن. التنظيم المحكم، التسليح المتطور، والتأهيل العقائدي يجعل من هذه القوة الحوثية البحرية تهديدًا فعليًا يتجاوز قدرات الميلشيات التقليدية.
وبينما يواصل الحوثيون تدريباتهم وتحديث ترسانتهم، تتجه الأنظار إلى ما إذا كان المجتمع الدولي سيواصل غض الطرف، أم أن الأيام القادمة ستشهد مواجهة حتمية مع "حارس البحر الأحمر"، قبل أن تتحول الحديدة إلى بندقية إيرانية مصوّبة نحو الملاحة الدولية.