عزيزي القارئ، أود في البداية أن أعتذر لك عن إعادة الحديث عن «مقالات عبدالرحمن الراشد». أشعر أن المسألة قد استُهلكت، غير أن قراءة ما بين سطور هذه المقالة فرضت عليّ الرد وتفنيد الطرح للقارئ العربي أولاً، وللجنوبي ثانيًا، خاصة أن كثيرًا من الجنوبيين لديهم إلمام بالسياق.
سأحاول قدر الإمكان اختصار هذه المقالة، حتى لا يطول الشرح، والدخول مباشرة إلى الفرضية المركزية والقيد الذي يضعه الراشد، بوصفه «كاتبًا في البلاط الملكي السعودي» كما تقول صحافة إخوان اليمن. وهذا الافتراض ليس من باب النكاية، بل من واقع التحالفات الاستراتيجية الواضحة اليوم، ليس فقط في صحيفة «الشرق الأوسط»، التي لا أدري لماذا يُقال عنها إنها «صحيفة الوطن العربي الأولى»، فأين الأولوية في صحيفة تنتج خطابًا ساديًا تجاه الشعوب والقضايا الوطنية، وكأن على الشعوب العربية، بل والعالمية، أن تأخذ الإذن من المملكة العربية السعودية.
هذا الخطاب لا يُفسَّر إلا بتفسير واحد: أن الصحافة السعودية تقدّم للعالم سردية واحدة مفادها أن «السعودية دولة تمارس الوصاية، وعلى العرب الخضوع لها»، في حين تُقدَّم إيران بوصفها شريكًا ندّيًا.
وحتى لا يُفهم الأمر على أنه رد شخصي، سأحلل «السردية الوصائية في خطاب صحيفة سعودية» لم تناقش قضية استقلال الجنوب العربي، بقدر ما طرحت أفكارًا حول كيفية منع الجنوب من تحقيق استقلاله، واضعة السعودية في موقع الوصي والمتحكم بمصائر الشعوب، ومغلِّفة ذلك بفكرة أن أي دولة تريد الاستقلال عليها أولًا الحصول على اعتراف، ليس من المجتمع الدولي، بل بموافقة الدولة المحتلة أولًا.
تقول هذه السردية الراشدية إن الجنوب العربي إذا أراد الاستقلال، فعليه أن ينتظر حتى منتصف شهر رمضان، ويذهب إلى صنعاء، ويجلس على مائدة مليئة بالسبوسة والحلبة وبنت الصحن والعصيد، ويلتقط «الدكتور ناصر الخبجي أو أنيس الشرفي» بعض الصور مع مهدي المشاط، ثم يعود الوفد أدراجه. طرح فجّ وأسلوب استعلائي يُفرغ حق الشعوب في تقرير مصيرها من مضمونه، ويتعامل مع مصائر البلدان وكأنها ملكية خاصة مُفوضة إلى ما لا نهاية.
خطاب يعكس ذهنية استعلائية واضحة، ولا يمكن أن يقود إلا إلى مزيد من الدمار والحروب والتوتر. خطاب كارثي بكل المقاييس.
إذا ما سُمّيت هذه «رؤية الشرق الأوسط السعودية»، فهل يُعقل أن يذهب شعب واقع تحت احتلال عسكري يتوسل أمام بوابات الدول طلبًا للاعتراف؟ أبسط مسؤول سيقول له: أين هي دولتك؟ هل لها حدود؟ هل لها جيش؟ فيُجاب: لا، سأعود لأسأل السعوديين أولًا.
أما مسألة «رضا الجوار»، وهنا يتحاشى الكاتب تسمية السعودية صراحة، فالسؤال البديهي: كيف يُطلب الرضا ممن يقصف بطائراته، وينشئ ميليشيات في حضرموت، كان آخر ضحاياها خمسة شبان من خيرة شباب المكلا؟ وكيف يُطالب اللواء فرج سالمين البحسني، ابن حضرموت، بالانسحاب من محافظته وتسليمها لرداد الهاشمي أو صغير بن عزيز؟ هذا يندرج في إطار الكوميديا السوداء.
تتحدث الصحافة السعودية عن «الشرعية اليمنية». ولو قيل إن المقصود «شرعية الحوثيين» لكان للخطاب قدر من الاتساق. فما الذي تمتلكه هذه الشرعية من قوة عسكرية أو جغرافيا يمكن التفاوض عليها؟ ثم إن السعودية نفسها تجاوزت هذه الشرعية ثلاث مرات: الأولى بتقليص صلاحيات الرئيس عبدربه منصور هادي وفرض نائب عليه غصبًا عنه (بشهادة خالد بحاح). الثانية بعزله في مسرحية هزلية انتهت قبل أن يصفق الجمهور. والثالثة بتوقيع اتفاقيات وتفاهمات مع إيران وأذرعها دون الرجوع إلى مجلس القيادة الرئاسي الشكلي.
في مقالة سابقة في الصحيفة نفسها، قال الكاتب بلا مواربة إنه مستعد للاعتراف بالحوثيين شريطة قبولهم الوصاية السعودية. فلماذا يُحاور الحوثيون اليوم ويُتفاوض معهم على منحهم دولتهم، بينما نعرف أن العائق الحقيقي هو ملف تكاليف الحرب وإعادة الإعمار وجبر الضرر؟ أليس التعويض، وفق هذا المنطق، سيكون من حضرموت، عبر السيطرة على الموارد بعد إخراج أهل الأرض من أرضهم؟
إرادة الشعوب، في نظر الخطاب الإملائي في تناول قضايا الاستقلال، ليست شرطًا كافيًا، بل تفضيلًا مرهونًا برضا الجيران. ثم تُساق أمثلة مثل «كردستان العراق»، حيث يُقدَّم الفشل بوصفه نتيجة الاندفاع، مع تجاهل أن الإقليم حُوصِر إقليميًا بشكل منسق، وأن «الشرعية» نفسها كانت أداة عقاب سياسي. ويُختزل نجاح جنوب السودان في موافقة الكبار، لا في الحروب الطويلة والكلفة الإنسانية وانسداد بدائل الوحدة مع الشمال.
أما «صوماليلاند»، فتُذكر بوصفها مثالًا «مؤهلًا بلا شرعية»، دون طرح السؤال الجوهري: من يمنع الشرعية؟ ولماذا؟ فالشرعية ليست معيارًا ثابتًا، بل قرار قوة.
نعود إلى الجنوب العربي. كيف يُقرّ الكاتب بمظلوميته، ثم يُحمِّل الجنوبيين مسؤولية الفشل، ويتحدث عن صراعات تاريخية، ويعترف بأن الدولة سقطت عام 2014؟ لماذا لا يُسأل إخوتنا في صنعاء عن سقوط العاصمة، وعن هروب حارس الجمهورية علي محسن الأحمر؟ لماذا لا يُسأل عن اختطاف الشرعية بعد انقلاب 2011، ثم اختطاف «شرعية المنفى» بعد 2015، وتسليم الدولة لمشروع إيراني؟ هذا قلب صريح للمسؤولية السياسية.
تقدّم الصحيفة السعودية ما تسميه «خريطة طريق»، ظاهرها عقلاني، وجوهرها تعجيزي: موافقة كل القوى الجنوبية (وهو شرط لم يتحقق في أي تجربة استقلال)، وموافقة مؤسسات يمنية بلا سيادة فعلية، وقبول شماليين لا يسيطرون على صنعاء، ورضا الجوار، ثم موافقة الكبار.
المفارقة الساخرة أن الجنوب، وفق هذا الطرح، مطالب بالحصول على اعتراف دولة غير موجودة كي يُنشئ دولة جديدة.
وتضع هذه السردية خيارين لا ثالث لهما: إما تسليم شبوة وحضرموت والمهرة، بوصفها مرتكزات الاستقلال، عبر «رضا الجوار»، أو الاستعداد لسنوات طويلة من الحروب والبؤس. وهذا ليس تحليلًا، بل تهديد سياسي ناعم، استُخدم تاريخيًا ضد الجنوب.
تبقى أسئلة لم تجب عنها الصحافة السعودية: لماذا يُمنح الحوثي الوقت ومسارات التفاوض، بينما يُحاصر الجنوب بالتحذير؟ كيف تُمنح الشرعية لمن انقلب بالسلاح، وتُمنع عمّن قاتل ضمن التحالف العربي؟ ولماذا يُتجاهل أن مجلس القيادة الرئاسي نفسه كيان انتقالي، لا دولة مكتملة السيادة؟
في المحصلة، يعيد هذا الخطاب تعريف الاستقلال كعملية خاضعة للوصاية، ويحوّل الشرعية من أداة اعتراف إلى أداة ضبط، ويجعل الدولة الجنوبية مشروعًا مؤجلًا إلى أجل غير معلوم. ويضاف إلى ذلك كل ما يُضخ إعلاميًا من محاولات منح رشاد العليمي غطاءً دينيًا وسياسيًا، في سياق يتجاوز الوصاية إلى ما هو أقرب للاحتلال.
#صالح_أبوعوذل