منذ سنواتٍ يعيش المواطن اليمني حالةً استثنائية لا تشبه ما يعيشه أيّ شعبٍ آخر على وجه الأرض. كل صباحٍ يفتح عينيه على وطنٍ لم يعد كما كان، وطنٍ تلاشت فيه ملامح الدولة ومفاهيم الإدارة، وتحوّل إلى ساحةٍ مفتوحةٍ للميليشيات، والشعارات الفارغة، والخطابات التي تتحدث عن "الوطن العظيم"، فيما تنهار تحتها الخدمات العامة، ويغيب فيها المسؤول الحقيقي الذي يسأل المواطن ببساطة: "كيف حالك؟ وهل تصلك الكهرباء اليوم؟"
لقد أصبح اليمني اليوم يفتقد إلى أبسط مقومات الحياة: كهرباء، ماء، صحة، تعليم، وحتى الأمان النفسي. وكلما حاول أن يرفع صوته بالسؤال، وجد أمامه سلطةً مغلقةً تردّ على تساؤلاته بعباراتٍ منمقةٍ عن "الصمود" و"العدوان الخارجي"، بينما في الحقيقة لا ترى في معاناته سوى وسيلةٍ لتبرير بقائها واستمرار قبضتها الحديدية على البلاد.
بعد سنواتٍ من الإقصاء والتهميش، لم يبقَ في المشهد سوى منتحلي صفات المسؤولية، ممن يدّعون خدمة الشعب، لكنهم في الواقع لا يخدمون إلا أنفسهم ومشاريعهم الصغيرة. إنهم أولئك الذين يعتبرون المنصب تكليفًا إلهيًا لا وظيفةً خدمية، فيتحصّنون خلف شعاراتٍ دينية، ويتحدثون باسم الوطن والرب، في حين يعيش المواطن في عزلةٍ تامةٍ عن أبسط حقوقه.
القيادات الحوثية –على سبيل المثال– تتعامل مع الدولة وكأنها غنيمة حرب، تدير مؤسساتها بعقلية "الوصاية الإلهية"، وتتخذ قراراتٍ ترفع الشعارات لا الخدمات. فعوضًا عن اجتماعاتٍ تبحث في كيفية إصلاح محطات الكهرباء أو تحسين شبكات المياه، نجدهم يعقدون اجتماعاتٍ مطوّلة لمناقشة "التحضيرات لذكرى الشهيد"، وكأن حياة المواطن أقلّ قيمةً من لافتةٍ تُرفع في فعاليةٍ موسمية.
لقد صارت هذه الفعاليات هي "الإنجاز" الوحيد الذي تتفاخر به الجماعة. "يوم الشهيد" عندهم أهمّ من تشغيل محطة كهربائية خرجت عن الخدمة منذ أعوام، وأقدس من تحسين أوضاع المستشفيات التي باتت عاجزةً عن استقبال المرضى. ولعلّ السخرية الكبرى أن الوزارات التي تحمل أسماءً خدماتية –كالكهرباء والمياه– أصبحت بلا خدماتٍ تُذكر، سوى تلك التي تُقدَّم لقيادات الميليشيا وأقاربهم.
والمفارقة الأكثر مرارةً أن زعيم الجماعة غير المنتخب يحرص على إرسال برقيات تهنئةٍ لرؤساء دولٍ أجنبية –مثل رئيسة تنزانيا– في وقتٍ يعجز فيه عن تهنئة شعبه بيومٍ بلا انقطاع كهرباء! فيبدو كأن اهتمامه منصبٌّ على تحقيق "تطلعات الشعب التنزاني"، بينما الشعب اليمني عليه أن يكتفي بشعارات "الحرية والاستقلال"، وهي شعارات تحوّلت في الواقع إلى أداةٍ للهيمنة والاستبداد.
لقد نجح الحوثيون في تحويل مفهوم الديمقراطية من "حكم الشعب نفسه بنفسه" إلى "نفسي يا رب نفسي". فالدولة لم تعد مؤسسات، بل أشخاصًا يقررون ويمنحون ويمنعون باسم الدين والوطن، بينما المواطن البسيط يُترك وحيدًا يواجه قسوة الحياة وانقطاع الأمل.
اليمن ،اليوم، لا يحتاج إلى شعاراتٍ جديدة، بل إلى دولةٍ حقيقية، إلى سلطةٍ تعرف أن الحكم ليس تكليفًا سماويًا بل مسؤولية بشرية، وأن الوطنية لا تُقاس بعدد الفعاليات، بل بعدد المواطنين الذين يجدون من يسأل عنهم بصدق. وحتى يتحقق ذلك، سيبقى اليمني يفتح عينيه كل صباحٍ على وطنٍ لا يشبه الأوطان، وعلى واقعٍ لا يحتمل المزيد من العبث السياسي باسم الوطن والدين.