لم تعد إشكالية الشرعية اليمنية مجرد مسألة ضعف أداء سياسي أو خلل مؤسسي عابر، بل تحولت إلى أزمة وجودية تهدد كيانها وشرعيتها كسلطة معترف بها دوليًا. فالمشهد الأخير الذي رسمه المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، خلال زيارته إلى العاصمة السعودية الرياض، جاء كاشفًا ومعبّرًا بوضوح عن حجم الانحدار الذي وصلت إليه هذه الشرعية. المبعوث التقى الجميع — من القوى الإقليمية إلى الأطراف المحلية الفاعلة — لكنه تجاهل الشرعية اليمنية تمامًا، وكأنها لم تعد طرفًا في المعادلة.
وهنا يفرض السؤال نفسه بإلحاح: كيف يمكن لمبعوث أممي، يفترض أنه يمثل الشرعية الدولية، أن يتجاوز الحكومة الشرعية التي يفترض أنها الممثل الرسمي لليمن؟
والأدهى من ذلك، كيف ترتضي الشرعية لنفسها هذا الهوان السياسي والدبلوماسي دون أن تعترض أو حتى تُعبّر عن استيائها؟ أليس في هذا التجاهل إهانة لرمزية الدولة اليمنية نفسها؟
لقد بدا المشهد وكأن غروندبرغ يتصرف بارتياح مطلق، ويمارس دورًا سياسيًا يتجاوز حدود مهمته، في ظل صمتٍ مطبق من الطرف الذي كان يجب أن يرفع صوته أولاً.
إن تجاهل المبعوث للشرعية لا يمكن تبريره بأنه خطأ بروتوكولي أو تقصير فني، بل هو رسالة سياسية صريحة مفادها أن الحكومة اليمنية باتت خارج الحسابات الجادة.
لكن السؤال الأعمق هو: كيف وصلت الشرعية إلى هذا المستوى من الضعف حتى تجرّأ المبعوث الأممي على تجاوزها بهذا الشكل الفج؟
الإجابة، بكل بساطة، تكمن في سلوكها السياسي المرتبك وغياب مشروع وطني واضح يمكن أن يمنحها ثقلًا حقيقيًا أمام المجتمع الدولي. فمنذ سنوات، اكتفت الشرعية بردود الفعل البطيئة والمواقف الرمادية، حتى أصبحت في نظر الوسط الدبلوماسي طرفًا تابعًا لا فاعلًا، ومتفرجًا لا صانع قرار.
غروندبرغ، الذي من المفترض أن يتحلى بالحياد ويلتزم بالقرارات الدولية ومرجعيات الحل السياسي، تصرف مؤخرًا بما يتنافى مع الأعراف الدبلوماسية. حيث يتعامل مع الحوثيين — المصنَّفين منظمة إرهابية — وكأنهم كيان شرعي طبيعي في المشهد اليمني. أليس هذا تناقضًا صارخًا مع أبسط مبادئ الأمم المتحدة؟ وأليس من واجب الحكومة اليمنية أن تسائل المبعوث عن معايير عمله وحدود صلاحياته؟
البيان الصحفي الذي أصدره غروندبرغ بعد زيارته، جاء بلغة توحي وكأنه يسعى لتلميع صورة الحوثيين وإيجاد مخرج سياسي لهم، بينما غاب أي ذكر حقيقي لدور الحكومة الشرعية أو مسؤولياتها. وهنا أيضًا يتجدد السؤال: لماذا لم نسمع من الشرعية أي رد أو موقف؟
لماذا لم تستدعِ المبعوث لتقديم إيضاحات؟
هل فقدت الإحساس بالمسؤولية تجاه ما يجري؟
أم أنها استسلمت نهائيًا لمعادلة التهميش واكتفت بلعب دور المتفرج على مسرح يعاد رسمه من دونها؟
إن هذا السلوك الصامت لا يعبّر فقط عن ضعف سياسي، بل عن أزمة وعي سيادي. فحين تسكت الشرعية عن انتهاك مكانتها، فإنها تعطي الآخرين الحق في التعامل معها كما يشاؤون. وحين لا تُدافع عن موقعها، فإنها تُسهم في ترسيخ فكرة أنها مجرد سلطة رمزية بلا وزن حقيقي.
المجتمع الدولي لا يتعامل مع العواطف ولا مع الشعارات، بل مع الوقائع. والواقع يقول إن الشرعية لم تعد تمتلك أدوات التأثير ولا تملك القدرة على فرض شروطها. فهى تفرّط في حضورها الدبلوماسي، وتخسر تدريجيًا احترام حلفائها، وتبدو عاجزة عن بناء أي تحالف داخلي أو خارجي يرد اعتبارها. أليست هذه النتائج كافية لتدق ناقوس الخطر داخل أروقتها؟
في السياسة، من لا يفرض نفسه يُستبعَد، ومن لا يملك مشروعًا يتحول إلى أداة في مشروع الآخرين. هذا بالضبط ما حدث للشرعية اليمنية، التي تحولت من مركز القرار إلى هامش المشهد، ومن ممثل الدولة إلى طرف يُستدعى حين يُراد تغطية شكلية للمشاورات.
لقد وجّه المبعوث الأممي رسالة واضحة بفعله الأخير: "الشرعية لم تعد ضرورية في المشهد السياسي اليمني". لكن الرسالة الأوضح جاءت من الشرعية نفسها، التي قبلت بهذا الوضع دون مقاومة. إنها حالة من الهوان الذاتي، حين يتحول التجاهل الخارجي إلى أمرٍ مألوف لا يثير حتى الغضب.
إن إنقاذ ما تبقى من صورة الشرعية يتطلب يقظة سياسية عاجلة من القوى الوطنية، واستعادة للكرامة الوطنية قبل أي شيء. فالمعادلة الجديدة في اليمن تُكتب اليوم، ومن لا يشارك في صياغتها سيجد نفسه غدًا مجرد سطرٍ في الهامش.