ليس المطلوب أن تكون الآن “أكتوبرِيّاً” بمقاييس الثائر المثالي في ستينيات القرن الماضي، لأنك لا تستطيع. فقد كان أولئك أبناء المكان والزمان، رجالاً حملوا هدفاً وطنياً نبيلاً، آمنوا به حتى الموت، فصاروا رموزاً تُقاس أفعالهم بسموّ الغاية النبيلة التي ضحّوا لأجلها.
وفي المقابل، ليس مطلوباً منك أن تصبح "لا أكتوبرياً” بحجة أن لديك سلَّة من المآخذ على دولة الجنوب أو نظامها. فتلك الأحداث الكبرى لا تُقاس بمسطرة الحاضر، بل تُفهم ضمن أطرها التاريخية، وفي سياقات الوعي والبيئة والظروف المحلية والإقليمية والدولية التي أحاطت بها.
أما اليوم، وقد وصلنا إلى مرحلة صار فيها الثوار جزءاً من الذاكرة الوطنية، والثورة حدثاً مؤسساً في وجدان الأجيال، فإن الخطاب الجنوبي الجديد لا بد أن يعكس روح هذه المرحلة: مرحلة الانفتاح على الرؤى المتعددة والمستويات المتباينة من الوعي، واختلاف المناهج الفكرية وأدوات التقييم.
إن مسؤولية الجيل الراهن ليست أن يقدّس الماضي أو يلغيه، بل أن يعيد قراءته بعين موضوعية تنصفه، وتحوّله من ذاكرة عاطفية إلى تجربة معرفية تُستخلص منها الدروس والعبر، لبناء وعي تراكمي حقيقي لا شعاراتي.
"ثورة أكتوبر” ليست حدثاً عابراً في الذاكرة الوطنية وإنما انطلاقة ضد الاستعمار الأجنبي، وحلقةً من سلسلة حركات التحرر العربي والعالمي التي سعت إلى كسر قيود الهيمنة الخارجية وإقامة الدولة ذات السيادة الوطنية. ومن تلك البداية كان العبور نحو تأسيس دولة الجنوب المستقلة لتحمل على عاتقها طموحات شعب في حياة مدنية حديثة.
منذ لحظة ميلادها، عاشت دولة الجنوب، مخاضات متتالية، شأنها شأن الدول الوطنية النامية، ونظراً لخياراتها الأيديولوجية فقد اجترحت مساراً شاقاً فيه كثير من التحديات والتجاذبات بأشكالها المتعددة في ظروف الحرب الباردة. ومع ذلك فقد حققت الكثير من الإنجازات في بناء المؤسسات، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وحافظت على القيم المدنية للمجتمع.
صُنّفت قيادتها السياسية ضمن اليسار القومي الثوري بأفقه الاشتراكي الكلاسيكي، الذي يربط نظريًا بين التحرر الوطني وتحرير الإنسان من التفاوتات الطبقية. غير أن هذا الوعي المثقل بحمولة فكرية عالية اصطدم بواقع لم تكتمل فيه شروط التحولات المطلوبة، فكانت الدولة تتقدّم بعقيدة نظرية لبناء مشروع أكبر من الأدوات المتاحة.
وعلى خلفية ذلك، ولأسباب تتعلق بارتدادات التاريخ والجغرافيا، واجهت الدولة الجنوبية سلسلة من الأحداث تجلّت في الصراعات الداخلية التي استنزفت طاقاتها وجمّدت قدراتها على استكمال بناء النموذج الوطني القادر على التعامل مع التحديات الداخلية والخارجية بصورة تحفظ مسار تطورها واستقلالها الوطني.
وقد مثّل إعلان الوحدة اليمنية الحدث التراجيدي الأكبر، إذ حرم شعب الجنوب من فرص المراجعات التاريخية والتغيير بما يكفل تحقيق أحلامه، ليجد نفسه، بدلاً من ذلك، يعيش أزماتٍ مركّبة خارج فضائه الوطني، وما يزال يدفع أثماناً تفوق طاقته للخروج من ذلك المأزق التاريخي.
كل أكتوبر وانتم بخير
أحمـــــــــــد عبداللآه
من صفحة الكاتب على موقع فيس بوك