آخر تحديث :السبت-13 سبتمبر 2025-01:57ص

‏الزيدية الهادوية الحامل الفقهي لحكم الكهانة

الجمعة - 12 سبتمبر 2025 - الساعة 11:49 م

عبدالله اسماعيل
بقلم: عبدالله اسماعيل
- ارشيف الكاتب


قراءة في البنية المُؤسسة ومساراتها المعاصرة، وسؤال التعافي.

عبدالله إسماعيل

مدخل

لا يمكن فصل الزيدية الهادوية في اليمن عن مشروع حكم الكهانة المتوارثة القائم على الاصطفاء السلالي واحتكار الإمامة في البطنين، فهذه النظرية لم تكن اجتهادا فقهيا، بل رؤية سياسية عنصرية، مثلت على الدوام الحامل الفكري والعملي لحكم السلالة، وقامت عليه دويلات أئمة الزيدية، وطورت مضامينه طبقة طويلة من الكهنة والفقهاء، دون أن يشذ أحد منهم عن القاعدة المركزية: ولاية وإمامة سلالية، وخرافة تفويض الاهي يعلو على العقد الاجتماعي والمواطنة.

وفي النسخة الأحدث — الحوثية — تتجلى الفكرة بتمامها، من محاضرات حسين الحوثي ونصوص بدر الدين وعبدالعظيم الحوثي والمؤيدي وغيرهم من الكهنة المعاصرين، إلى الوثيقة الفكرية الثقافية (2012) التي رسمت هوية الحركة وكرست مفاهيم الولاية والاصطفاء، فحملت البذرة نفسها إلى واقع معاصر أكثر صراحة وفجورا.


من دخول الرسي إلى دولة الحرب والجباية

منذ أن دخل يحيى بن الحسين الرسي غازيا إلى اليمن، أسس ما يعرف بالزيدية الهادوية التي كانت خليطا بشعا من الزيدية السياسية والجارودية التكفيرية وأفكاره الكهنوتية، وأهم قواعدها رفع النسب فوق الدين والكفاءة والعقد الاجتماعي، مذ ذاك ترسخت قاعدة الدمار: الإمامة حق سلالي لا ينازع، وعلى مدى قرون تبدلت الألقاب — «الهادي إلى الحق، شرف الدين، ناصر الدين، سيف الإسلام، بدر الدين…» — لكن الدلالة ثابتة: وثنية إمامية، ونظام حكم عصبوي عنصري دائم الاستهداف للمجتمع وبنيته الاجتماعية والثقافية والفكرية.

عند كل وهم بالتمكين، يخرج النص من الموروث إلى الممارسة: حروب مفتوحة لتثبيت الولاية، وجبايات باسم الخراج والخمس، ورهائن لإخضاع القبيلة والمخالف، ومساجد يُعاد تعريف وظيفتها لتصبح منابر للتجنيد والتعبئة.


وثيقة 2012: من خرافة وراثة الكتاب إلى وراثة الدولة

من يظن أن هذا مجرد تاريخ انتهى، تكفيه نظرة ولو عابرة إلى «الوثيقة الفكرية الثقافية» الزيدية الصادرة عام 2012.

في باب الاصطفاء تقول الوثيقة: «نعتقد أن الله سبحانه اصطفى أهل بيت رسوله، فجعلهم هداة للأمة وورثة للكتاب من بعد رسول الله إلى أن تقوم الساعة، وأنه يجيء في كل عصر من يكون منارا، ومنهجيتنا في إثباته وتعيينه هي منهجية أهل البيت».

بهذه الصياغة تنقل فرية وراثة الكتاب إلى استحقاق وراثة الدولة، وتنحصر القيادة للأمة في مسار عائلي مغلق «إلى أن تقوم الساعة»، ويُقصى الناس — كل الناس — من أصل التفويض، ولا نتحدث هنا عن فضل روحي مخترع ومزعوم فقط، بل نتحدث عن ترخيص سياسي بُنيت عليه مسائل التكفير والاستحلال والغزو والسيطرة.

إن ما تسميه الوثيقة «أفضلية روحية أو دينية» ليس من الدين في شيء، بل افتراء وخرافة تنقضان أول ما تنقضان مبدأ المساواة الذي قرره الوحي، جاعلا الإيمان والتفاضل بالعدل والتقوى لا بالنسب.

فالنبي ﷺ لم يورث سلطة ولا أوصى بحكم لأحد، بل حطم ركائز العصبية وميز بين الدين والسلطة، ولذلك فرفع النسب إلى مرتبة التفويض السياسي هو قلب لمقاصد الدين على رؤوسها، واستدعاء للماضي بما يقتل المستقبل.


تفكيك المواطنة وصناعة الفرز السلالي

النسخة الحوثية لم تكتف بالتبني المخادع للفكر الزيدي الهادوي، بل استعادته بلسان متطابق مع الإرث الرسي الرجعي والمتخلف، ففي محاضرات حسين الحوثي ونصوص بدر الدين الحوثي وخطب المعاصرين من الفقهاء الزيديين، يتم التصريح بأن الولاء للسيد/العلم معيار لقبول العبادات نفسها، وأن صلاة المسلم وصيامه وزكاته معلقٌ قبولها على ختم الطاعة والانصياع للسيد.

ويبلغ الغلو أن يصرخ خطيبهم: «إذا أطعنا السيد عبدالملك الحوثي فلا نفقد من رسول الله إلا شخصه» — وهي عبارة تعيد إنتاج السردية نفسها التي روجها الكاهن الرسي طباطبا عن نفسه حين قال: «والله لئن أطعتموني ما فقدتم من رسول الله إلا شخصه».

إنه تطابق بنيوي في النظر إلى السلطة: إمام يتلقى «العلم من السماء»، ومجتمع تفرض عليه إعادة صياغة تدينه ليصبح مشروطَ القبول بالطاعة.


وعندما تصبح الطاعة والعبودية دينا على هذا النحو، تتراجع فكرة المواطنة لصالح رابطة النسب والسلالة، ويتحول المجال العام إلى ساحة فرز: سادة وأتباع، أطهار وعوام، مؤمنون ومنافقون، وتتكفل آلة الجباية بتحويل الاقتصاد إلى خزانة للحرب، وتتولى الدعاية تزيين الجراح، فتتحول الهزائم إلى انتصارات لأنها لا تصل نتائجها إلى القيادة.

من ناحية أخرى تحاول الإمامة الزيدية الجديدة إعادة تشكيل التاريخ، لتبييض كهنتها الأجداد، والاستمرار في نهج الإمامة في محو التجارب الوطنية المدنية التي بنت مؤسسات واقتصادا، لتستبدلها بسردية سلالية تجعل أضرحة الكهنة أصنامَ قداسة وريع، فلا يصبح مستغربا أن تتبدل المدرجات الخضراء إلى مقابر خضراء، وأن يتحول اليمن السعيد إلى تغريبة من المعاناة التي لا تتوقف.


ثبات القاعدة المؤسسة عبر العصور

يخرج من يروج اليوم لفكرة أن الزيدية معتدلة وأقرب إلى السنة ولم تفسدها إلا ممارسات بعض الأئمة، لكن الحقيقة أن هذا الفصل بين النص والتاريخ، بين الفكر والممارسة، ليس الا تجميل للقبح، وتبرئة للفكر المجرم الذي أنتج ممارسة مجرمة، فعندما أسس الفقه الزيدي شرعية الحكم على مبدأ التفوق السلالي وتحولت الولاية إلى أصل الدين، لم يعد الاستبداد انحرافا، بل نتيجة منطقية.


لم يقدم التاريخ إماما زيديا واحدا نقض تلك القاعدة الأساس، أو أقام مساواة سياسية خارج السلالة، أو تخلى عن إرث الرسي وفكره، والسجل طويل ومتطابق، فكلما توهمت الفكرة أنها تمكنت من الدولة، أعادت إنتاج نفسها: حرب لإدامة الخراب تحت زعم الولاية والحق في السلطة، وتحويل لليمن الى دار حرب يستدعي الجباية لتمويل الحروب، ودعاية لتسويغ القهر وتشويه الخصوم، وصياغة لمبررات القتل بالتكفير، وما يحصل هو تبديل لاسم الإمام وأدواته، لكن النص هو النص الذي يستمر في كتابة فصول الخراب.


طريق التعافي يبدأ بتجريم الفكر

لن يتعافى اليمن إلا بقول الحقيقة كما هي: الزيدية الهادوية هي الرحم الذي تتوالد منه الكهانة الإمامية التي خربت البلاد قرونا، وتعود اليوم بثوب جديد، ولا يجوز اليوم أن نتعامل باهتزاز أو تحفظ أو تردد، ونحن نعلن هذه الحقيقة، فالزيدية هي الشرنقة التي اختبأت خلفها العنصرية السلالية لتنفجر في وجوه اليمنيين نارا ودما في أكثر من منعطف تاريخي وفي أكثر من كارثة.


من يحيى الرسي إلى الحوثي، تتغير الوجوه والأزياء والشعارات، لكن الخيط نفسه يشد الحاضر إلى الماضي المتمثل في الزيدية الهادوية ومفرداتها، كخرافة الولاية وادعاء اصطفاء السلالة واحتكار الدين والدنيا وتكفير المجتمع والمخالف، وقطع هذا الخيط هو شرط بداية جديدة، نرد فيها الشرعية إلى مكانها الوحيد: إرادة الناس، ودولة للجميع، بلا سيد فوق المواطن ولا نسب فوق القانون.