منذ اللحظة الأولى، طالبونا بإنسانية لم نَرها منهم، وبحزنٍ على فاجعة لم نذق مرارتها إلا على أيديهم. فجأة، صار لزاماً على المنهوب أن يذرف دمعة على ناهبه، وعلى المقموع أن يكتب مرثية في جلاده. كيف تعزّي في عصابة كانت بالأمس تطاردك في الشارع، وتحصي عليك أنفاسك، وتختطف أحباءك من فراشهم، واليوم تريدك أن تعتبر موتها “عرساً وطنياً للشهادة”؟
وحتى لا يزايد علينا أحد بالإنسانية، أتت الشهادة الأقسى من ناطقهم السابق، علي البخيتي، الذي أعلنها صريحة وهو المعارض الأبرز لهم اليوم: من حق الناس أن يفرحوا ويَشْمَتُوا بمقتل أي قيادي منهم، حتى لو كان شقيقه محمد، “والي ذمار” وأحد أبرز وجوه الجماعة، واصفاً هذه المشاعر بـ”الطبيعية”. فإذا كان هذا منطق من كان لسانهم الناطق، فبأي قاموس يتحدث المبررون اليوم؟
ثم تبدأ سيمفونية التبريرات الواهية: كانوا “مدنيين”، بل “مجرد موظفين”! يا لها من براءة سماوية! “وزير” العدل الذي أدار المقصلة، مجرد موظف بسيط؛ و”وزير” الاقتصاد الذي هندس التجويع، مجرد محاسب صغير. أدوار هامشية في مسرحية الجريمة الكبرى، والجميع مدعو للتصفيق عند إسدال الستار.
قالوا إنهم كانوا في “ورشة عمل”. ورشة! تخيّل المشهد السريالي: “وزير” العدل يراجع قانون “الرفق بالحيوان”، و”وزير” الإعلام يكتب قصيدة عن “السلام الكوني”، و”وزير” الاقتصاد يوزّع سندات “الرخاء القادم”. ثم يأتي “العدوان الغادر” ليقاطع هذا الحفل التنويري! لكن… هل كانت ورشة عمل حقاً، أم اجتماعاً لتوزيع أدوار الموت القادم؟
الأدهى من القصف نفسه، كان صمتهم المريب. لا عويل، لا غضب، فقط برود جليدي، كأنما الضربة أتت على كومة قمامة، لا على واجهة “حكومتهم”. أربعة أيام من الصمت المطبق، كانوا خلالها يطبخون الرواية على نار هادئة، قبل أن يجرؤوا على إذاعة قائمة الراحلين. نصف واجهتهم الوزارية ورئيسها تبخروا، ثم خرجوا يزفونهم كقرابين رخيصة على مذبح المسيرة.
ولأن الاعتراف بالهزيمة أثقل من جثثهم المتفحمة، اخترعوا نهاية هوليوودية: عشر قنابل تزن عشرة أطنان “انتقَت” ضحاياها بدقة جراح ماهر، والقتلى رحلوا “راضين فخورين”، حسبما قال القائم بأعمالهم، القنديل محمد مفتاح، الذي زعم أنه كان إلى جوارهم في المبنى الذي تمت تسويته بالأرض. وهنا يكمن جوهر البروباغندا: تحويل الهزيمة المذلة إلى “اصطفاء إلهي”، وإعادة تدوير الفشل الأمني الكارثي ليصبح “صموداً أسطورياً”. إنها رسالة موجهة للداخل قبل الخارج، مفادها أن الموت في سبيل المسيرة ليس خسارة، بل هو أسمى أشكال النصر.
ثم يلقون في وجهك شعارهم الأبدي: “لكنهم ضد الصهيونية!”. يا له من درع مقدس! يرفعون علم فلسطين بأيدٍ تنهب خبز اليمن، ويهتفون لغزة بأفواه تبتلع قوت الأيتام. وكأن السفاح يصبح قديساً إذا صرخ في وجه الشيطان.
أما الحقيقة، فهي أبسط وأقسى: أم تنتظر ابناً تبخر بلا اسم، ودم يراق بلا ثمن، وأرواح تُسحق تحت جنازير الشعارات الجوفاء. وقبل أيام فقط، كانوا يصرخون بملء حناجرهم: “دفاعاتنا الجوية تصدّت للعدوان وأجبرت الطائرات على الفرار!”. واليوم؟ يعلنون بفخر مقتل نصف “حكومتهم” ورئيسها بنفس الضربة.
فإن لم يكن هذا هو “تحقيق الأهداف”، فما هو إذن؟ أم أن هؤلاء “الوزراء” أيضاً مجرد “زنابيل” في طاحونة المسيرة، يُستهلكون ثم يُحتفى بهم كوقود مقدس؟ بالأمس كانوا “موظفين”، واليوم صاروا “شهداء قادة”. وهكذا يصبح الفشل نصراً، والهزيمة بطولة، وموت واجهتهم الحكومية مجرد مناسبة لتجديد الشعارات.
وفي الأخير، ما بقي من كل الحكاية إلا دم على الأرض… وكذب يتجدّد في الخطاب.