بين فترة وأخرى، بينما نحن منهكون في تتبع جدليات النضال التي تغفل عن رصد أهل النضال الحقيقيين، نتفاجأ بخبر وفاة أو استشهاد هذا وذاك، فنستمع متأخرين لسيرتهم ونضالهم، فننعيهم وتنعانا الحسرة عندما ندرك أنّ بين ظهرانينا عاش رجالٌ كنا نجهلهم.
كنت أعتقد أنّ آخر رجال اليمن القومي، وآخر بطولات شبابه وتضحياتهم، تقف عند الشهيد القيل خالد الدعس الذي بكيناه طويلًا. لكننا نتفاجأ أنّ بين صفوف جمهوريتنا القومية ألف خالد وألف شهيد ماجد.
ما إن سمعت الليلة بخبر وفاة شهيد مأرب وشاهدها الماجد، الجريح البطل عصام هُصام بحيبح، الذي عاش حياته شهيدًا يجيد دور الفارس والمحارب، متسلحًا ببأس الشهداء وهم يقارعون ظلامية البغي وكهنوت الإمامة، حتى دخلت إلى حسابه في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.
هناك وجدت الفتى المأربي، ابن الجوبة، وقد وهب نفسه ليكون حارسًا لمعبد الكرامة السبئية وللإباء اليمني الذي لا تكسره جغرافية الهزائم التي حاولت التسلل إلى ما تبقى من شرف اليمن، يمنيًّا في المكان والزمان.
كان عصام بحيبح ـ على صغر سنّه قياسًا بشيوخ عجاف سلّموا واستسلموا لجحافل الغزو الكهنوتي ـ كبيرًا بما يكفي ليشحذ همته وهمّة قبيلته، ويمد يده لكل يمنيّ حر ليتقاسم معهم شرف الحرب والمقاومة دفاعًا عن مأرب. فكانت الكلمة والموقف قرينين لا ينفصلان عن حياته التي انتهت على عجل، وكان قدر اليمن أن تودّع خيرة أبنائها مبكرًا.
قال عن يقين:
"وفي سبأ لن يكون للحوثي قاعدة… لا تكره شيئًا اختاره الله لك، فعلى البلاء تؤجر، وعلى المرض تؤجر، وعلى الفقد تؤجر، وعلى الصبر تؤجر… فصبر جميل".
لقد كان يدرك تلازم الابتلاء مع ثبات الموقف، وأن النصر صبر ساعة.
استنكر عصام بحيبح الدعاية الحوثية التي تزعم أن غزو جحافلهم لمأرب بدافع تحريرها من القاعدة، فجاء رده حازمًا:
"قاعدة؟! لكن ممارساتكم ستصنع منهم قاعدة، وفي سبأ لن يكون للحوثي قاعدة".
لقد امتلك هذا الفتى، الذي كان يواصل دراسته أثناء التمدد الحوثي صوب مأرب، فلسفة خاصة. فهو ببصيرته الثورية أدرك ما غاب عن رجالٍ كنا نحسبهم من اليمن وأهله، فاغترّوا بدعاية الكهنوت. أمّا هو، فلم تؤثر فيه زيف شعاراتهم، بل ظلّ فارسًا فاتحًا للمجد، يعتقد جازمًا أنّه لن يكون للحوثي قاعدة في سبأ ولا في كل اليمن.
كان خطابه ثوريًا مقاومًا، تعبويًا وعقائديًا تحرريًا، يؤمن بقدرة الفرد على المقاومة والتغيير وصناعة النصر وامتلاكه. ومع اقتراب جحافل الكهنوت صوب مأرب، كان يردد:
"سحروهم تفاح، لا قلق لا قلق بإذن الله. مأرب كل شيء لها استثنائي. تشبّث أجدادنا بصخور البلق وعمدان العرش والمعبد، فلم ينجرفوا حتى لسيل العرم. مأرب الجمهورية، رغم كيد المعتدي، سننتصر".
لقد امتلك الراحل لغة قومية وخطابية منحت له كهبة ربانية لا تخشى الردى ولا تحيد عن النزال.
أدرك عصام بحيبح ما غاب عن كثير من رجال اليمن، فكان يدعو إلى التصحيح والوحدة للدفاع عن اليمن، وتوحيد صوت ورصاص أبنائها صوب العدو المتورد، وتأجيل نقد بعضنا لبعض، إذ قال:
"إحنا نقول نوحّد الخطاب، سلاحنا وأقلامنا نحو المستورد الخبيث. لا يعني أننا لا نقول صح وخطأ، لكن لكل مقام مقال".
وقال أيضًا في دعوته لوحدة الصف:
"سننتصر يا إخواننا الفرسان والأقيال. عفاش رحل وترك لكم الحصان العربي الأصيل، الذي لا يتروض إلا لأمهر الفرسان وأشجعهم".
لقد كان عصام بحيبح قيلًا يمنيًا يؤكد انتماءه لليمن، ولا يرى في انتمائه الحزبي للإصلاح ما ينافي هذا الانتماء:
"أنا إصلاحي تمام، أعتز، بس في نفس الوقت أنا قيل، وكل يمني أصيل قيل لا دخيل. حتى في الفيس قدكم تشوفوا".
كانت مواقفه ثابته عندما يجب أن تكون مواقف كل يمني، فوجهته وبوصلته وثقته بالنصر كانت تقوده إلى دربٍ واضح:
"عاد إحنا إخوة، كلنا دمنا يمني. خلونا في المستورد الدخيل الفارسي. عاد الحوثي في البلق الشرقي، شهداؤنا الوطن باليوم وأنتم منهم… احسبونا معكم سلاح معلّق متى ما احتجتوه لقيتوه".
كما حذّر من الحسابات الخبيثة المنتحلة والمدسوسة في أوساط اليمنيين، وبثّ روح التفاؤل:
"اليمن قادم شاء من شاء وأبى من أبى. أقسمنا على ذلك بأرواحنا… اليمن لليمنيين أجمع، لا مكان لدخيل مستورد بيننا".
وكان يرى أن خطابات السلام التي تمنح الحوثي شرعية بقائه لا تعدو كونها خطرًا يتهدد اليمن، فكتب:
"نحن دعاة سلام ونقاتل من أجل الحصول عليه، لكنكم لم تكونوا مصدر ثقة… ولن يكون اليمن إلا اليمن بعمقه العربي والإسلامي… الآن نريد توازنًا لا تنازل من أجل اليمن، ولاسيما في جهات اختصاصنا مأرب".
لقد كان فارس مأرب يدرك أن بيننا فئات تتغذى على استمرار الحرب وتناور لمصالحها، فقال لهم:
"مأرب ستمنحكم المأوى والأمان الذي تبحثون عنه، لكنها لا تمنح الشرف لمن فقده… لا تراهنوا على من لا يمتلك الشرف. عيب! احترموا دماء الشهداء".
إنه خطاب الكبار، ولغة السمو، وعنفوان الحضور، تركه ابن اليمن وقيلها وإنسانها. ولن تُمحى آثاره، وتكفي هذه القصيدة كي تكون تاريخ يروى عن جيل من الشباب اليمني أثر نفسه كي يحيا اليمن.
قفي مأرب
قفي كي يعلم العادي ولن يعلم
فا أنت اللغز والمعجم
قفي صبرا، قفي صمتًا، قفي نعتًا
قفي مأتم
قفي ممشوقة المعنى
قفي مفرودة المبسم
قفي حمراء أو خضراء أو صهباء
لا نهتم فقط، لا تركعي للهم
ضعي البارود في عينيك كحلا
يظهر المعلم
ضعي الحمراء في شفتيك من دمنا ولن نسأم
ضعي الصاروخ بين أصابع الكف التي تألم
وخطي في دفاترنا سيخذلني من استسلم
ضعي الصاروخ بين أصابع الكف التي تألم
وصيحي في حناااااجرنا خذلنا
قفي لا تبوحي، نعم أعلم
أليس اليوم فينا قيس أو تبع أو خثعم
فلا استسلام ياصنعاء تحري نصرنا الأعظم
فمن يستخدم الأنساب والألقاب كي يغنم
فلن يغنم
قفي مأرب شامخًا ولو بلدم
قفي واستقبلي القبلة بعين الحب يا عبله
سيصحو عنتر غفله
غدًا نعلم
قفي قيما ومدرسةً وآيات مفصلة
وتاريخ وتبيان لمعنى الموطن الأعظم
قفي في الهول صابرةً وللأحقاد ناكرةً
وللشهداء شاكرةً وللسجناء ذاكرةً
وللمحتل ماكرةً بمكرٍ جم
أنا مأرب يا صنعاء من للعشق قد يفهم
أنا التاريخ والتاريخ يا تاريخ لا يهدم
بحضني عاشت الدنيا تذوق
حناني المفعم
سقاني من حضنت الغم
ومن لبني تذوق كي يذيق
لسانك العلقم
ومن عظمي تقوى عظمه وأشتد
فاستحكم وقاتلني ولم يرحم
قفي مأرب شامخة ولو بلدم
غدًا تأتي عدن بالحب يا صنعاء
أو بالدم لا نهتم
سيضحك ثغرنا بعزّ من تعز التي تضرم
غدًا من صعدة الملحا يقشع
ليلنا الأظلم
غدًا ننسى، غدًا ننعم
وفي مأرب السبأية
على سلطانها نلتم
فلا تأسين يا صنعاء، فالمنصور لا يهزم
ووعدًا من قوافلنا صباحك أنت يا صنعاء لن يعدم
🖋 عصام هُصام بحيبح
مأرب الجمهورية
وبانعرش وبانلحم
١٤ أكتوبر ٢٠٢١