آخر تحديث :الثلاثاء-29 يوليو 2025-09:09ص

علي عبدالله صالح... زعيم استشهد واقفًا، فبقي الوطن مكسورًا من بعده

الثلاثاء - 29 يوليو 2025 - الساعة 01:48 ص

نزار الخالد
بقلم: نزار الخالد
- ارشيف الكاتب


في زمنٍ تبعثرت فيه المعاني، وتحطمت الرايات، لم يعد يُدهش الناس أن يُسفك الدم، أو تُغدر الأوطان. لكن أن يقف رجل في وجه السقوط، في لحظة انكسر فيها الجميع، فتلك بطولة تنحني لها الهامات وتستحق الخلود.


الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح، لم يمت بغرفة مكيفة وعلى فراشٍ بارد، ولا في منفى فاخر، بل استشهد واقفًا، مقاتلًا، في منزله أو في الطريق إليه، لا فرق؛ فكلاهما أصبح ساحة معركة، وميدان عزة وشرف.


إن علي عبدالله صالح، الشخصية التي لا تزال حاضرة بكل ثقلها في ذاكرة اليمنيين، مهما اختلفت حوله المواقف وتباينت الآراء، لم يكن مجرد رئيس عبر كرسي الحكم، بل كان اليمن كله، بتناقضاته، بتعقيداته، بطموحاته، بانكساراته وانتصاراته.


هو الرجل الذي لم تصنعه السلطة، بل صنع هو معادلاتها، وفرض قواعدها، ومشى فوق حبالها المشدودة بثقة نادرة لا يُتقنها إلا من تربّى في مدرسة الواقع اليمني القاسي.


قاتل حتى النفس الأخير

صالح لم يهرب كما فعل الآخرون، ولم يساوم حين اشتد الطوق. كان بإمكانه أن يغادر آمنًا، أن يختار حياة المنفى بترفها السياسي، لكنه اختار الشهادة واقفًا في ساحة المعركة، وأن يكتب سطره الأخير بدمه، لا بحبر التسويات المذلة.


قتلوه غدرًا، لكنه مات بطلًا. قاتل حتى اللحظة الأخيرة، بسلاحه الشخصي، رافضًا كل الإغراءات وكل الممرات الآمنة التي عُرضت عليه. لا فرق إن قُتل في منزله أو في طريقه إلى منزله الآخر، فكل شبر في أرضه كان ميدان مواجهة، وكل لحظة كانت فصلًا من ملحمة الرجولة والكبرياء.


لم يكن مع صالح جيش ولا مؤسسات دولة في أيامه الأخيرة. كل ما كان يملكه حفنة من الرجال الأوفياء، وبندقيته التي لم تفارقه، وإيمانه بجمهورية لن تموت حتى وإن قُتل كل من دافع عنها.


لم ينتظر حبل نجاة، ولم يمدّ يده لأحد، رفض الهروب، رفض أن يكون صورة أخرى لرئيس مخلوع في المنفى، وأبى أن تنكسر كرامته تحت سقف صفقة أو استسلام.


قاتل، لا لأنه يظن النصر قريبًا، بل لأنه آمن أن الكرامة لا تُقايض، وأن الموت في سبيل موقفٍ وطني أشرف من حياةٍ تحت أقدام الكهنوت.


هكذا انتهى الزعيم: رجلٌ لم تمنحه السياسة كل ما يستحق، لكنها منحته نهايةً تشبه بدايات الأبطال.


من الظلم، بل من السذاجة، أن يُختزل علي عبدالله صالح في أخطاء حكمه، أو أن يُنكر عليه حقه في أن يكون أحد أبرز صانعي التاريخ اليمني الحديث.


نعم، كان جزءًا من تحالف الحوثيين، لكنه لم يكن الوحيد. استفاد منه الجميع، ثم انقلبوا عليه، كما استفادوا من خلافاته، من قوته، من دهائه، ثم راحوا يلومونه على كل شيء.


من السذاجة أن يُحمَّل صالح وحده مسؤولية ما آل إليه اليمن، فالحوثيون لم يهبطوا من السماء، ولم يصعدوا وحدهم. كل القوى السياسية دعَمتهم طيلة الحروب الست، واستثمرت في لحظة فوضى، وشاركت في جريمة تفكيك الدولة، ثم عادت تتباكى على أطلال الجمهورية. بل إن بعض هذه القوى التي تُزايد اليوم على صالح هي ذاتها التي استفادت منه لعقود، ثم طعنته في الظهر حين تغيرت الرياح. حتى خصومه الذين فرّوا من صنعاء وركبوا أمواج الخارج عادوا الآن لتوزيع البطولات من وراء الحدود، بينما هو واجه الموت في ميدان شرف، لا في غرف المؤتمرات أو شاشات الإنكار.


حقد القلة على صالح اليوم ليس لأنه فشل في بناء اليمن، بل لأنه حرم كثيرين من فرصة العبث بها. لم يسمح لهم أن ينهبوها كيفما شاؤوا، ولا أن يقسموها بحسب شهواتهم. أرادها موحدة، حتى وهو يُتهم بالتفرد. وأراد لها أن تصمد، حتى وهو يُتهم بالتأخر. وأنا أقولها: إن الزعيم الشهيد علي عبدالله صالح لم يكن ملاكًا، ولم يدّعِ ذلك يومًا، لكنه كان رجلًا من طينة الكبار، ممن لا يُشترون ولا يُباعون ولا يُساومون على كرامة وطن.


ومن يُنكر عليه ذلك، فليقل لنا: مَن بعده وقف كما وقف؟ من واجه كما واجه؟ من رفض الخروج كما رفض؟ من مات في قلب العاصمة، في قلب المعركة، واقفًا لا منكسرًا؟ صالح لم يكن معصومًا، لكنه لم يكن جبانًا، لم يساوم على كرامة وطنه، ولم يترك صنعاء للمليشيا دون طلقة. ومهما قيل عن سياساته، فقد مات بشرف، وهو يقاتل مشروعًا سلاليًا كهنوتيًا لا يعرف من الدولة سوى اسمها، ولا من الوطنية سوى الشعارات الفارغة.


الحقد لا يصنع وطنًا. التاريخ لا يُكتب بانفعالات اللحظة، ولا بإملاءات الكراهية، بل يُكتب بالدماء التي تُراق دفاعًا عن الموقف، وبالمواقف التي لا تتبدل حين تشتد العواصف. وسيظل صالح حيًّا في وجدان الشرفاء، لا لأنه كان كاملًا، بل لأنه كان صادقًا في حب بلاده ومتشبثًا بها حتى الرمق الأخير.


أما أولئك الذين فرّوا وتركوا خلفهم الوطن للضياع، ثم عادوا اليوم يتحدثون عن بطولات من ورق، فنقول لهم: اصمتوا، فالتاريخ لا يكتبه المرتعشون، ولا يُخلد فيه أسماء الذين هانت عليهم أوطانهم. إن التاريخ يكتبه الرجال الذين ثبتوا حين تهاوى الجميع، وسقوا الأرض من دمائهم حين عزّ الماء.


الذين يُصرّون على جلد الرجل حتى وهو في قبره لا يُدركون أنهم بذلك يمنحون الحوثي عمرًا إضافيًا، ويظهرون أمام شعبهم أقزامًا منبوذين. كل حقد صغير يُسكب على صالح يمنح الكهنوت سنة جديدة من السيطرة والخراب. اليمن يحتاج اليوم للتعافي، لا للثأر من الذاكرة. الوطن لا يُبنى على الكراهية، بل على الاعتراف، وعلى الإنصاف، وعلى أن نميّز بين الخصومة والخيانة، وبين الخطأ والخذلان.


الخلاصة: رحل صالح، رجلٌ بمآخذه وإنجازاته، لكنه رحل حرًا ولم يُسلِّم. والدرس الأكبر: أن من يرفض الاستسلام في زمن الانهيار يزرع جذوة مقاومة لا تنطفئ. اليمن لن ينهض إلا حين تتصالح نخبته مع ذاكرته، وتُدرك أن المعركة الحقيقية ليست مع رجل مات، بل مع مشروع يطمس التاريخ ويقتل الحاضر ويصادر المستقبل.


علي عبدالله صالح لم يمت إلا جسدًا، أما المعنى الذي مثله في لحظاته الأخيرة، فهو ما يجب أن نحييه فينا جميعًا: أن نعيش كرماء، وأن نموت شرفاء، وألا نخون الوطن مهما ضاقت الخيارات.


رحم الله الشهيد، وسلامٌ على من قاوم ومضى. والخزي لكل من باع وسلم وفر، ثم عاد ليتحدث عن شجاعة لم يعرفها يومًا. والمجد لليمن.. إن بقي فينا من يستحقه. سلامٌ على من صان الكرامة وارتقى، وبقي في الذاكرة جدارًا لا يُهدم، ومجدًا لا يُمحى، حتى تلد نساء اليمن من يشبهه.. أو يكاد.