تُسهم الذاكرة الحية للمجتمعات في بناء جسور بين الأجيال عبر استحضار الأحداث التاريخية والتنبيه من مخاطر تكرار السيئة منها، وتُعد بمثابة صمام أمان يمنع تلاشي التجارب السابقة وتسرب الدروس المستفادة والوقوع في حلقة دوامة الأخطاء المُفرغة، وتُحسب كـ لقاح مجتمعي مناعي ضد الاستغلال والاستغفال والتضليل، وتعتبر معيار ضبط للتمييز ما بين المناضلين الصادقين الأحرار وما بين الانتهازيين والمتسلقين والنفعيين، وأداة لمكافحة كافة التصْحِيفات والتحريفات والتزييفات.
أما ذاكرة المجتمع الميتة أو المتطايرة (ذاكرة السمكة المجتمعية) فإنها سريعة الزوال، ومنعدمة الاستفادة من تجارب ودروس الأحداث التاريخية، وعاجزة عن التمييز ما بين المواقف الوطنية واللاوطنية، ومشلولة الحركة للانصراف من دوامة الأخطاء المتكررة، وعرضة للتزييف والتحريف والتهميش، وفاقدة لبوصلة المسؤولية والمساءلة؛ بينما الذاكرة المجتمعية "المتقطرنة" مختلة التوازن وسهلة التلاعب، وتتلاشى منها جميع المواقف العدائية السابقة تجاه الوطن والمواطن، وتعلق في مخيلتها المواقف العرضية الأخيرة!. وتلك الذاكرة المجتمعية الميتة ناتجة عن تدليك التناسي ومساج المسامحة ليس عن الأخطاء العابرة غير المتعمدة، بل للأحداث الجسيمة والجرائم المتأصلة والمتكررة والمقصودة، ومن تبعات ذلك التناسي والتسامح معاودة المآسي وضياع الحقوق وتبدد الاستحقاقات وتبدل الجلود بين الفينة والأخرى، وصولًا لتحول مُجرمي ومُحرضي الأمس فيها إلى مناضلي وثوار اليوم!.
كل من التحق بركب العصابة الإجرامية للكهنوتية السلالية من القيادات العليا والمتوسطة (بشقيها المدني والعسكري) ومن الوجاهات الاجتماعية ومسؤولي المربعات السكنية سواءً في المدن أو الريف، وكل من ظهر في القنوات المتلفزة للدفاع عنها والتحريض ضد أبناء اليمن، وكل من ابتاع واشترى بدماء أبناء القبائل اليمنية لمصلحة أسياده الكهنوتية عبر تحشيد الأطفال والشباب نحو الالتحاق بمراكز ومعسكرات السلالية، وكل من حرض على تدمير المدن وحصار المحافظات، وكل من ساهم في ارتكاب الجرائم بمختلف أنواعها السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية أو الاجتماعية او الإعلامية أو القضائية أو التعليمية أو غيرها، كل أولئك مُجرمين أجرموا بحق أبناء الشعب والأرض اليمنية ولا بد من محاسبتهم وفقًا للقانون.
سجلات الأحداث الماضية والمواقف السابقة للأفراد أو القبائل بمناطقها الجغرافية تجاه الوطن والمواطن تُعد مرآة للحاضر ومؤشر عن ميولها واتجاهاتها المستقبلية!. لذا، ليس كل من سٌجن أو اُعتقل أو اُحتجز أو بدأ ينتقد بالكلمة أو شرع في تبديل جلده من أولئك المُحرضين والمُجرمين المذكورين بالسطور أعلاه، وممن عملوا مع أسيادهم من الكهنوتية السلالية وتماهوا مع مشروعهم لمراحل متعددة ولفترات طويلة، أكان ذلك نتيجة تعارض المصالح أو انتفاء المنفعة أو زوال الفائدة أو فناء قدرة أوراقهم أو الاستغناء عن خدماتهم المقدمة لأسيادهم، بأن يتم تبديل سماتهم من "مُحرضي" إلى "مٌناضلي"، أو تحويل صفاتهم من "مٌجرمي" إلى "ثوار" اليوم!.
من حرض بالأمس على تدمير المدن وحصار المحافظات وشجّع على اقتحامها وتطهيرها فإنه يتوجب احتجازه عند أي نقطة تفتيش لمداخل تلك المدن، ولا يحق له التأفف بحجة حرية التنقل بين الأراضي اليمنية أو التستر تحت لافتة "الوحدة"!. ومن ضلل الشباب وحشد القبائل لمساندة أسياده من السلالية ولمحاربة أبناء وطنه فإنه آخر من يتحدث عن حرية الرأي وانعتاق الفكر وسيادة القانون!. ومن ظهر بالأمس عبر الشاشات المتلفزة وسٌمع عبر القنوات الإذاعية للدفاع عن مشروع أسياده من الكهنوتية فليس من حقه التلويح بالأدوار النضالية أو رفع الشعارات الثورية!. ومن ارتدى البزة العسكرية المهترئة للذود عن أسياده الكهنوتية وأدى الصرخة لرفع المعنوية العكفوية فإنه بعيد كل البعد عن الكرامة والعزة والأنفة اليمانية!. ومن ينطق لسانه بأريحية مفردات "سيدي ومولاي وقائدي" فإنه عكفوي بالسليقة وعبد بالطبع، وليس حر وليس به أي نفحة حرية!. ومن طبّق أبشع العنصرية بحق أبناء اليمن فإنه لا يحق له التهكم على "العصبية"، ومن زاول المناطقية الجهوية واللغوية والوظيفية فإنه لا يحق له التهكم على "المناطقية"، ومن مذهبه يحدد بوصلة أيدلوجيته ويرسم نطاق دفاعه ويقرر عبوديته لأسياده فإنه آخر من يتحدث عن "الطائفية"!.
قبل الختام، المُتتبع الفطن للتاريخ اليمني القديم والمعاصر والحاضر، سيجد أن معظم الوطنيين الصادقين الأحرار من المنادين بالثورة الجذرية الشاملة والمناهضين للكهنوتية السلالية وأدواتها التاريخية القذرة، إمَّا تم التخلص منهم أو تشويه سمعتهم ومقاصدهم أو انتهى بهم المطاف بالمنفى، ولم يأخذوا حقهم لا في صفحات التاريخ ولم ينالوا مواقعهم المرموقة في ذهنية المجتمع، وظُلموا أثناء حياتهم وبعد مماتهم، وأخذ أماكنهم "مُحرضي ومُجرمي الأمس البعيد والقريب"، والذين أصبحوا فيما بعد مناضلي وثوار ورجال فكر!.
ختامًا، الحقوق لا تسقط بالتقادم، والتراجع عن التحريض لا يعفي من المحاسبة، والتوقف عن استمرارية ارتكاب الجرائم لا يلغي العقاب في حال ثبوتها!. ثم أن الوطنيين الصادقين الأحرار هم من أعلنوا انحيازهم الكامل مع اليمن ضد الكهنوتية السلالية وأدواتها القذرة منذ أول طلقة، وهم من كانت أمامهم فرص حزبية أو مناصب سياسية أو مكانة وظيفية، ولكنهم ركلوها بأرجلهم وداسوها تحت أقدامهم، وآثروا الوطن أرضا وانسان وهم قلة قليلة؛ بينما المُتحولين والمُتقلبين والمُتبدلين والمٌتنقلين و الانتهازيين والمُتسلقين والمٌنتفعين من "مُحرضي ومُجرمي الأمس" كُثر، وخصوصًا من يعانوا متلازمة داء مذهب أئمة الإمامية البغيضة!.