زرتها مرتين من قبل ولكني في الثالثة رأيتها بكامل آلقها الطبيعي والثقافي؛ إنها مدينة دن بؤش حيث يقيم صديقي العزيز الدكتور حسين جعفر السقاف منذ ربع قرن من الزمن مع عائلته الكريمة وحيث يقع مكتبه الهندسي المعماري الشهير ( HAS) كانت تلك المرة بصحبة الصديقة، الدكتورة مارينا دي ريخت، استاذة الأنثروبولوجيا التنموية في جامعة إمستردام الحرة وأهم خبيرة أكاديمية هولندية في المجتمع اليمني. استقبلنا صديقنا السقاف في بيته العامرة وسط مدينة دن بوش ذات الاربعة طوابق، تعرفنا على شريكة حياته المهندسة المعمارية آلاء وابنته مريم السقاف عضوة المجلس المحلي لمدينة اوتريخت من اكبر المدن الهولندية. وطالبة الدكتوراه في جامعة لايدن العريقة في تخصص علم نفس الثقافي نعومة السقاف التي تتكلم خمسة لغات ( الهولندية والإنجليزية والعربية والروسية والفرنسية) امضينا يوما رائعا في ضيافة أقدم عائلة يمنية تقيم في المملكة الهولندية. حدثتنا الدكتورة مارينا عن تجربتها البحثية في اليمن منذ عام ١٩٩١ وكتابها المهم ( رائدات في ظروف غير مواتية) وعن مشاريعها البحثية في الأنثربولوجيا اليمنية إذ مازالت مهتمة في اليمن وأحواله. هذا فضلا عن إن ما يمتلك الدكتور السقاف من ثقافة واسعة في الجغرافية والتاريخ إذ لم أجد أحد يفهم في جغرافيا المدن الاوروبية وتاريخها وأنماط عمارتها القوطية والرومانية والحديثة بافضل من صديقي المهندس المعماري حسين السقاف. وحينما تكون بصحبة مهندس معماري مثقف وأستاذة أكاديمية في انثروبولوجيا التنمية الثقافية وتتكلم العربية بطلاقة فضلا عن كونها متخصصة في الحالة اليمنية فهذا نعمة ربانية.
بعد وجبة الغداء آخذنا صديقنا في جولة سياحية بالمدينة دن بوش، طاف بنا على أهم معالمها التاريخية وسوقها القديم ونهرها الذي يجري في عروقها وكانّها الدم في الجسد اسمها في الهولندية -S-Hertogenbosch وتعني حرفياً «غابة الدوق» هي مدينة وبلدية بجنوب هولندا. وهي عاصمة مقاطعة شمال برابنت. تقع سيرتوخيمبوس 80 كم (50 ميل) إلى الجنوب من أمستردام. مدينة قديمة تأسست عام 1184 وتعد واحدة من أقدم المدن الهولندية . تم إنشاءها من قبل التجار الذين استقروا عند التقاء نهر دوميل ونهر برابانتسي. مساحتها 59.5 كيلومتر وعدد سكانها لا يتجاوز ١٦٠ الف نسمة.
ولكنها ليست مجرد وجهة سياحية، بل هي لوحة فنية تتجلى فيها الطبيعة والثقافة والتاريخ في تناغم بديع. إنها مدينة تتدفق في عروقها مياه نهري دوميل (Dommel) وآ (Aa)، لتغذي روحها بجمال لا ينضب وتاريخ يمتد لقرون. حينما تتجول في شوارعها المرصوفة بالحصى، وستشعر بأنك تسير في صفحات كتاب مفتوح، حيث كل زاوية تحكي حكاية. الأسوار القديمة، التي لا تزال بقاياها تروي قصص الحروب والسلام، تمنح المدينة طابعًا يجمع بين الجلال والحميمية. أما قنواتها المائية، التي تُعرف باسم “بينن ديبين” (Binnendiep)، فهي الشريان الحي الذي يربط أحياء المدينة، كما لو كانت أوردة تمد الجسد بالحياة.
زرنا كاتدرائية سان يان في قلب المدينة تم إنشاؤها في مطلع القرن الثالث عشر الميلادي، وتعد واحدة من أجمل المعالم الأثرية المعمارية في المملكة الهولندية . جدرانها المزخرفة بالتماثيل الدقيقة ونوافذها الزجاجية الملونة- التي تشبه القمريات اليمنية كما عبرت الدكتور مارينا دي بريخت- تحكي قصصًا دينية وفنية تعود إلى العصور الوسطى. و دن بوش هي مسقط رأس الفنان الهولندي الشهير هيرونيموس بوش، الذي اشتهر بلوحاته السريالية في القرن الخامس عشر. وفي اثناء تجولنا عرجنا على محل شهير في المدينة ببيع الحلوى النادرة “بوسخه بول” (Bossche Bol)، حلوى محلية تشبه الكعكة المحشوة بالكريمة ومغطاة بالشوكولاتة الداكنة للأسف كان الوقت متاخراً بعد الخامسة عصرا وجدناه مغلقا. كنت أمنّي نفسي بوجبة شهية بعد أنا حدثني عن الدكتور حسين السقاف وعلى طعمها الذي لا ينسى أبدا اشبه بحلاوة ( من السماء) العراقية التي كنت أذهب إلى شارع المنصور عنوة لشرائها. وما اجلها سوف أعاود زيارة المدينة طال الزمن أو قصر
دن بوش ليست مجرد مدينة نهرية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها ، بل هي تجربة تحتضنك بتاريخها، ترويك بجمالها، وتغذي روحك بثقافتها. إنها الوجهة المثالية لمن يبحث عن سحر المدن النهرية الهولندية، حيث يمتزج عبق الماضي مع نبض الحاضر فعلى الرغم من عراقتها، فإن دن بوش مدينة عصرية تحتضن الحياة بكل أشكالها. شوارعها مليئة بالمتاجر العصرية، والمقاهي الأنيقة، والمعارض الفنية التي تجمع بين القديم والحديث. كان يوما دنبوشيا زاخرا مع مارينا وحسين العزيزين.