في كل مجتمع يسعى للنهوض الحضاري والمعرفي، تبرز الحاجة الملحة لتكريم الفاعلين والمبدعين والمجتهدين، أقصد النخبة الثقافية التي استطعت إن تجعل لحياتها قيمة ومعنى رغم كل الظروف والاحوال التي تحبط الهمم وتجلب الهموم. إذ "أن النُّخب ليست وضعية عارضة في طبيعة المجتمعات الإنسانية، بل حالة جوهرية أساسية راسخة في صلب التكوين الفطري للمجتمعات الإنسانية منذ بدء الحياة الإنسانية حتى اللحظة الراهنة، إذ لا يمكن للحياة الاجتماعية في أي مجتمع كان، أن تتم من غير نخب اجتماعية سياسية وثقافية قادرة على توجيه مساراتها وتحريك دفتها في الاتجاهات المرغوبة والمطلوبة"وتتعدد النخب وتتنوع بقدر تعدد وتنوع مجالات الفاعلية والعلاقة الاجتماعية. ويمكن للثقافة والمثقف العربي اليوم أن يعمل ويعاود فعله في ظل اللحظة الحضارية العالمية الراهنة. قليلون جدا هم الذين تمكنوا من تحويل حياتهم إلى مشروع جدير بالقيمة والمعنى ولا سيما في ميادين القول والكتابة، لما لهذه المجالات من دور محوري في تشكيل الوعي، وبناء الفكر، وصناعة الهوية الثقافية. فالكلمة الحرة، والفكر الخلّاق، والجهد البحثي الجاد، هي أدوات لا غنى عنها لأي نهضة حقيقية. وتكريم النخب الفعالة له معاني ودلالة مختلفة: قل لي من تكرّم أقول لك من أنت ! فقد جرت العادة في مجتمعاتنا إن يتم تكريم الاشخاص الفاعلين بعد رحيلهم ( تكريم الشهداء والمناضلين والسياسين ومن كان لهم دور وأثر حقيقي أو مختلق بحسب السلطات السائدة في المجتمع ) فتكريم رجال الدين يعني ترسيخ وتعزيز دور المؤسسة الدينية في المجتمع وتكريم العسكريين يعني تعزيز النزعة العسكرية في المجتمع وتكريم ( المناضلين) يعني تعزيز وترسيخ النزعة الاحتفالية والايديولوجية في المجتمع وتكريم المبدعين والمتفوقين من الطلاب والكتاب والمفكرين والمثقفين يحمل معاني ودلالات مهمة على صعيد التنمية المستدامة. فتكريم هؤلاء الفاعلين الذين اجتهدوا على انفسهم ليس مجرد مجاملة رمزية أو عرف اجتماعي، بل هو فعل ثقافي ومعنوي يحمل في جوهره اعترافًا بقيمة العطاء الفكري والإبداعي، وإشعارًا بأن الجهد لا يضيع سدى. فالمبدع الذي يُكرَّم يجد في هذا التقدير طاقة إضافية لمواصلة الإبداع، ووعيًا بأن ما يكتبه أو ينطقه من فكر وأدب وشعر ونقد هو محل احترام واهتمام وتقدير المجتمع بحسب نظرية الدور
إذ يصف الدور الاجتماعي للأشخاص : مجموع الوظائف النسقية المعترف بها اجتماعياً بوصفها وظائفا وأدوارًا مشروعة ومقدرة اجتماعيا خوّل لفئة من أفراد المجتمع النهوض بها، والتي بفضلها منحوا اسمهم وصفتهم المهنية (علماء) لقاء ممارستهم نشاطاتهم وفق معاييرها وقيمها المهنية الخاصة بصفتهم جماعة أو مؤسسة علمية، والتي لا يكون المرء عالماً إلا بها.
وتكريم المثقفين يبعث برسالة مجتمعية مهمة فيما يشبه التغذية الراجعة مفادها أن التعليم والثقافة لا تقل أهمية عن السياسة والاقتصاد، وأن الذين يسهمون في تنوير العقول وبناء الوجدان الجمعي يستحقون التقدير كما يستحقه العلماء والمهندسون والأطباء. بل إن تكريم أهل الفكر والكلمة قد يكون أكثر إلحاحًا في زمن المحن والانكسارات السياسية فالثقافة هي ما يبقى بعد خراب كل شيء!
إن تقدير المبدعين والمجتهدين في فنون القول، سواء أكانوا شعراء، أو كتاب مقالات، أو باحثين أكاديميين، أو روائيين، هو أحد وسائل تشجيع الإبداع داخل المجتمع، وتحفيز الأجيال الناشئة على السير في دروب الفكر والمعرفة المقدرة خير تقدير وحاجة الناس إلى مثل عليا للسلوك أكثر من حاجتهم للشعارات والمواعظ والوصايا الجوفاء ! فالمثقفون الذين تمكنوا من ترك أثرا معتبرا في مجتمعهم هم الجديرون بالتكريم والتقدير والاعتراف والإنصاف.
فالتكريم الأكاديميين الفاعلين يُعيد الاعتبار للقيم الأكاديمية والأدبية التي قد تتعرض للتهميش أو الإقصاء في خضم هيمنة الصورة والصوت السريع، ويسهم في إعادة ترتيب سلم الأولويات الثقافية، بحيث تصبح الكلمة الجادة والفكر المستقل في طليعة ما يحتفى به ويُكرّم.
فمن الناحية الفلسفية، يندرج التكريم ضمن مفاهيم العدالة والإنصاف والاعتراف والتقدير، وهي مفاهيم جوهرية في الفلسفة الأخلاقية والاجتماعية. فالفيلسوف الألماني أكسل هونيث، في نظريته عن “الاعتراف”، يرى أن الفرد لا يحقق اكتمال ذاته إلا من خلال الاعتراف المجتمعي بجهده ووجوده وقيمته. وبناء على هذا، فإن تكريم المبدعين هو شكل من أشكال الاعتراف بقيمة ما ينتجونه من معرفة وجمال وأفكار، وهو تجسيد لمبدأ العدالة الرمزية في توزيع التقدير، إذ لا يكتمل المعنى الإنساني للفعل الإبداعي إلا حين يُرى ويُقدّر. كما يلبي حاجة إنسانية أصيلة تتمثل في الإحساس بالجدوى والانتماء. والرغبة في الاعتراف؛ تلك الرغبة الثاوية في اعماق النفس البشرية التي تعبر عن الحاجة الفطرية عند كل كائن إنساني إلى أن يعترف به كذات وقيمة عاليتين جديرتين بالتقدير والاحترام لذاتهما وفي ذاتهما ومن أجل ذاتهما، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى، وهي حاجة تأتي مباشرة تماما بعد الحاجات الفيسولوجية، وحاجات السلامة والأمان في هرم عالم النفس الشهير أبراهام ماسلوا. وباعتبارنا كائنات اجتماعية في غاية الحساسية لا نستطيع تنمية هويتنا وبناء علاقة إيجابية مع أنفسنا ومع غيرنا من الناس من دون الاعتراف الإيجابي بذواتنا الإنسانية كقيم عليا يجب أن نحترم. إذ دون الاعتراف المتبادل يستحيل الاندماج الاجتماعي للناس في مجتمع منظم ومنسجم ومستقر ومتعاف ومزدهر. ويعد عالم الاجتماع الفيلسوف الألماني اكسل هونيث( 1949 ) ابرز من درس هذا الموضوع في كتابه صراع من اجل الاعتراف. وهونيت الذي يعد من اهم ممثلي الجيل الثالث لمدرسة فراتكفورت , والذي يعد من اهم المنظرين لمفهوم الاعتراف بالفلسفة الغربية المعاصرة.
فالمبدع، رغم نزوعه إلى العزلة والتأمل، يحمل في داخله توقًا لأن يشعر بأن صوته مسموع، وأن أثره حاضر في الوعي الجمعي. ومن ثم، فإن التكريم لا يُشبع فقط حاجة التقدير وفقًا لتسلسل ماسلو للاحتياجات، بل يدعم البناء النفسي للذات المبدعة، ويمنحها دفعة نحو الاستمرار في العطاء، ويقيها من الانطفاء أو الانكفاء نتيجة الإهمال أو الإقصاء.
وفي هذا السياق، فإن تكريم المشتغلين بفنون القول والكتابة والتنوير كما نفعل اليوم مع الدكتور عيدروس ناصر النقيب ليس اعترافًا بإنجاز ماضٍ فحسب، بل هو إقرار بإمكانية المستقبل، وتحفيز الشباب للتعليم والاجتهاد والتثقيف الذاتي عبر القراءة والاطلاع المستمر فالقراءة هو أوسع الطرق إلى المعرفة والعقول مثل الحقول لا تنتج الثمار الطيبة بدون ري وحراثة وعناية فكذلك هي عقول الناس ليس بمقدورها أنتاج
الرؤى والأفكار والنصوص الإبداعية في مختلف فنون القول والكتابة بدون شغف بالقراءة والكتابة المستمرة. وتلك هي التجربة الحياتية التي خاضها
فتى يافع الذكى منذ ٢٢ يناير ١٩٥٥م والتي نطل عليها من شرفة السبعين حول. إن تكريم الأكاديمي السياسي المثقف اليساري العنيد ليس تزكية لشخص نحبه بل احتفاء بقيمة. وليس فقط تتويجًا لمسار، بل فتح أفق لاستمرار. وفي مجتمع يكرّم مبدعيه، يشعر الفرد بأن المعنى لا يُهدر، وأن الكلمة لا تموت، وأن الفكر لا يُنسى، بل يُستدعى ويُحتفى به ويُعتمد عليه
أنه تكريم للمعنى، وللقيم، وللإبداع الخالص. إنه استثمار في وعي الأمة وذاكرتها، وفي مستقبلها الثقافي والمعرفي، ودعوة مفتوحة للاعتراف بأن من يبني الإنسان بالكلمة هو شريك أصيل في بناء الأوطان.