سفر، يسفر، سافر، مسافر، سفير، سفور، أسفار، سفرات، سافرات .الخ من اشتقاقات كلمة سفر التي نرددها كل يوم في حياتنا بمعنى الانتقال من مكان إلى مكان أخر ابعد منه مسافة ولها معاني الكشف والطلوع والسطوع طلَع" سَفَرَ الفَجْرُ، انكشَف، سَفَرَ وَجْهُ المرأة" انكشف. امرأة سافرة مكشوفة الوجه بلا نقاب ولا قناع. والسِفر بمعنى الكتاب الاثيرة وجمعه إسفار. وهكذا تعددت معاني كلمة سفر بحسب التشكيل فالسَّفَر (بالفتح) يعني الارتحال والتنقُّل من مكان إلى آخر، وغالبًا ما يكون إلى مكان بعيد والسَّفَر (بفتح السين والفاء) أيضًا قد يأتي بمعنى الكشف والظهور والبيان. يُقال: “أسفَرَ الصبحُ” أي: أضاء وانكشف يقول ابن سينا في وصفه للنفس
"وهي التي سَفرت ولم تتبرقعِ" بمعنى تجلت أو انكشفت. والسِّفْر (بكسر السين) يعني الكتاب الكبير، ومنه قوله تعالى: “في صحفٍ مكرّمة، مرفوعةٍ مطهّرة، بأيدي سفَرة” (عبس: 13–15)، أي كتبةٍ من الملائكة ويقال: “سِفْر التوراة ” أي كتاب المقدس عند اليهود. وهناك استخدمات كثيرة للكلمة لا تحضرني الآن. وعلى كل حال يعد السفر أحد فعاليات الكائنات الحية المتحركة بطبيعيتها البيولوجية فالطيور تسافر من مكان إلى أخر ( الطيور المهاجرة) والأسماك دائمة الحركة في البحار والمحيطات والقطعان البرية دائما التنقل والترحال بحثا عن الماء والمرعى حتى النمل والنحل والأحياء الدقيقة. ولما كان الإنسان كائنا حيا وعاقلا فقد اكتسب السفر عنه معاني ودلالة مختلفة عن المعاني البيولوجية.
وقد قرائنا الكثير من النصائح والوصايا بشأن السفر وفوائدة كما جاء في قصيدة الشافعي الشهيرة عن فوائد السفر الذي سطر:
تَغَرَّبْ عَن الأَوْطَانِ في طَلَبِ الْعُلى.وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ: تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسابُ مَعِيشَةٍ، وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِد"
وهناك من يضيف فوائد أخرى ويجعلها سبعة فوائد. غير إن الأمر الذي يهمني هنا هو كيف ظل سؤال السفر غائبًا عن التأمل الفلسفي رغم أنه من اكثر الأشياء التي نمارسها كل يوم في حياتنا وكل شخص منّا لديه تجارب الخاصة من السفر وأنا أحب السفر كثير وسافرات كثيرا وطفت عدة إذ زرت معظم المدن العربية الرئيسة من عدن وصنعاء وحضرموت وتعز في اليمن إلى بغداد والموصل والبصرة وبابل والنجف في العراق ودمشق وحمص وحلب وإدلب في سوريا ومسقط وصلالة في سلطنة عمان والأردن الهاشمية والرياض وجدة ومكة والمدينة المنورة وأبها والدوحة وابو ظبي ودبي والفجيرة والشارقة والجزائر وتبسة وتيبازة وفي الغرب الرباط والدار البيضاء وفأس ومكناس والخرطوم وأم درمان وشندي في السودان والقاهرة والإسكندرية وسوان وأسيوط والسويس وشرم الشيخ والزقازيق وحلوان المنوفية وربما غيرها في أم الدنيا الرحيبة لم تحضر في الذاكرة الآن. وفي أوروبا زرت كوبنهاجن في الدنمارك، وإمستردام في هولندا واتورخت ونايخمن وهانجلو وانسخدة ودينكامب وازلولدان ودنبوش وبينما كنت أسير في شوارع دنهاخ؛ أجمل مدينة وأكبرها في هولندا. بعد إمستردام سرحت بي الذاكرة إلى زمن الفيلسوف باروخ إسبينوزا الذي لجاء إلى دنهاخ من قرار الطرد اليهودي الجائر. فتذكرت قوله الحكيم في إن أكثر الاشياء قربا منّا وحميمية بالنسبة لنا هي اكثر بعدا عن انتباهنا! نعم الاندماج مع بعض عادتنا الحياة يجعلها بعيدة عن تأملاتنا ولهذا تكون حاجتنا مسألة للفلسفة لكي نرى معنى المساعي التي نمارسها كل يوم في حياتنا بحسب روسو. فما هو السفر ؟ وهل يمكنن الحديث عن فلسفة السفر؟ وماذا يعنى إن يسافر المرء من وطنه إلاصلي إلى مواطن بعيدة؟ وما هي الدوافع الحقيقة للسفر؟ ولماذا نحتاج احيانا إلى السفر؟ والى أي مدى يكون السفر مهما في بعض الاحيان؟ وغيرها ما الاسئلة المتصلة التي كانت افكر بها قبل ذهابي إلى معرض الكتاب في دنهاخ بصحبة الصديق العميد الركن ثابت حسين صالح. وهناك في معرض الكتاب المقام في فندق ماريوت وفي لاهاي وقع نظري على كتاب الفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون، فن السفر”صدر عن دار التنوير، بيروت، ترجمة الحارث النبهان عام 2021. لم أتردد في شراءه رغم سعره الغالي بالنسبة لوضع المعيشي. هو الكتاب الوحيد الذي عدت به من المعرض بعد يومين من زيارة مدينة دنهاخ البحرية. رجعت مساء الأحد ومن ليلتها اعتكفت على قراءة الكتاب بحماسة واهتمام استعدت فيها ذكرياتي مع الكتاب الورقي في زمن مضى. واليكم الفكرة الأولية التي كونتها عنه .
إذ وجدت إن ( فن السفر )" يُعدّ عملًا فلسفيًا مميزًا يتجاوز أدب الرحلات التقليدي. يستكشف الكتاب الجوانب النفسية والفلسفية للسفر، مركزًا على كيفية جعل الرحلات تجربة مُثرية للذات، بدلاً من مجرد الانتقال من مكان لآخر. بدلًا من تقديم دليل سياحي يركز على الوجهات، يدعو دو بوتون - وهو كاتب بريطاني من أصل سويسري، وُلد في 20 ديسمبر 1969- إلى جعل الفلسفة وثيقة الصلة بالحياة اليومية. يركز في كتاباته ومحاضراته على موضوعات مثل الحب، العمل، الدين، والسياسة، من منظور يساعد الناس على فهم أنفسهم والعالم من حولهم بشكل أفضل القارئ إلى التأمل في دوافع السفر، طريقة التفاعل مع الأماكن، وكيفية استلهام الجمال والمعنى من التجربة وهو صاحب كتب؛ عزاءات الفلسفة وقلق السعي إلى المكانة وكيف يمكن لبروست أن يغير حياتك فضلا عن كونه المؤسس المشارك لـ “مدرسة الحياة” (The School of Life) مؤسسة تهدف إلى تعليم الناس المهارات العاطفية والاجتماعية التي لا تُدرَّس في المدارس التقليدية.
ختاما يمكن القول: إن كتاب فن السفر ينظر إى تجربة السفر بعيون فلسفية جديدة بوصفها موقفا وجوديا مهما من الحياة ويناقش كيف تشكل الصور الذهنية (من كتيبات سياحية أو وسائل إعلام) توقعات غير واقعية عن الوجهات، مما قد يؤدي إلى خيبة أمل ويسلط الضوء على سحر الأماكن مثل المطارات، القطارات، ومحطات الخدمة، التي تمنحنا فرصة للتأمل بعيدًا عن ضغوط الحياة اليومية كما يستعرض كيف يمكن للفن، مثل لوحات فان غوخ عن بروفانس، أن يعيد توجيه أنظارنا إلى جمال الطبيعة ويعزز تقديرنا لها و يشجع على الاندماج الشعوري بالجلال من المناظر الطبيعية، مستندًا إلى أفكار الفيلسوف إدموند بيرك عن السمو.
فالسفر ليس مجرد تنقل جغرافي، بل فرصة لاكتشاف الذات والعالم إذ يرى أن الرحلة الحقيقية تكمن في التأمل والانفتاح على التجارب الجديدة ويدعو الكتاب إلى كسر روتين الاعتياد على الأماكن المألوفة، مما يجعلنا “عميانًا” عن جمالها، ويشجع على إعادة اكتشافها بنظرة جديدة ويرى دو بوتون أن السعادة في السفر تأتي من القدرة على تقبل الامكنة الجديدة والاندماج في سياقاتها وعيش لحظاتها والتفاعل مع اهلها بعقل متفتح، بدلاً من السعي وراء توقعات مثالية.
أو التقوقع في في صدفة الذات المغلقة.
كتاب فن السفر ليس مجرد كتاب عن الرحلات، بل تأمل فلسفي في كيفية جعل السفر تجربة مُثرية ومفيدة وممتعة نفسيًا وجسديا. كتاب يجمع بين الفلسفة، الأدب، والفن، والجغرافبا وهو دعوة لتبني ذهنية منفتحة تجعل كل رحلة، سواء إلى وجهة بعيدة أو مكان مألوف، مغامرة غنية بالاكتشاف والمعاني الجديرة بالاهمية والقيمة والاعتبار.