آخر تحديث :الخميس-05 ديسمبر 2024-04:42م

كلية دار العلوم بجامعة القاهرة ونظرية حارس البوابة

الثلاثاء - 12 نوفمبر 2024 - الساعة 12:38 ص

د. قاسم المحبشي
بقلم: د. قاسم المحبشي
- ارشيف الكاتب


يحتاج المشتغل في الحقل الأكاديمي إلى ما يشبه العصف الذهني بين الفينة والأخرى؛ عصف ذهني يعيد تذكيره بوظيفته الأساسية وظيفة البحث العلمي المتمثلة في نقد وإبداع وإنتاج المعرفة العلمية تكتسب أهمية متزايدة بوصفها الوظيفة الرئيسة للمؤسسات الأكاديمية المعاصرة. وصفة (حارس البوابة) تطلق على المحكم العلمي في المجلات والمؤتمرات العلمية إذ ينظر إلى الشخص الذي يمارس المهنة الأكاديمية بوصفه يمارس أدوارًا متعددة ومتكاملة منها: دور الباحث، ودور المدرس، ودور الإداري، ودور المشرف والمحكم العلمي (حارس البوابة) ولكل دور من هذه الأدوار قيمه ومعاييره المحددة بشفافية. ويعد دور حارس البوابة أهم الادوار وأخطرها، إذ تقع عليه مهمة حراسة بوابة قلعة المعرفة – بما تعنية كلمة (حارس) من معاني اليقظة الدائمة والحذر والاحتراس والأمانة والشجاعة والنزاهة والمسؤولية الرفيعة- وتأمينها وحمايتها وصيانتها من كل الاختراقات والتهديدات المحتملة، فضلا عن التعهد الدائم برعايتها ونقدها وتنميتها وتطويرها وتجديدها وتجويدها. وهناك معايير علمية مجردة صارمة ودقيقة هي وحدها من ينتخب الاشخاص المعنيين بتقييم وريازة وتحكيم الأبحاث المقدمة إلى المجلات والمؤتمرات العلمية.

وربما تتجلى وظيفة حارس البوابة في مناقشة الرسائل والاطاريح العلمية من اللجان المتخصصة في برامج الدراسات العليا بالأقسام الأكاديمية تعد اكثرها أهميه إذ أن المناقشة هي تتويج لمسار اكاديمي مضني بعد اجتياز الامتحان الشامل وهو مثل أسمه يعد أخر محطة معرفية واشملها تحتم على طالب أن يستثمر كل موارده العلمية التي نهل منها طوال حياته كمتخصص متمكن في مجاله. ولعل أبزر ما يميز هذه المحطة العلمية أنها بمثابة الحلقة التي يتم فيها ربط جميع ما تم تعلمه من معلومات ومعارف خلال دراسة المقررات سواء في مرحلة الماجستير أو الدكتوراه أو قبلهما منذ الابتدائية مع التغذية الراجعة من الخبرة والتجربة.

أنه ختبار أشبه بالغربال الأكاديمي بعد حصد ودرس الثمار، يكشف عن مدى قدرة طلاب الدراسات العليا للأنتقال إلى مرحلة العلماء القادرين على نقل ونقد المعرفة وإنتاجها. كما يساعد توضيح العلاقات بين الكثير من المجالات المعرفية التي قد كنا يظن أنها منفصلة ولا مجال لدمجها، ويبين الفروق والاختلافات وغيرها من التفاصيل الدقيقة والهامة، ويساهم أيضًا في بناء وتأسيس النظرة التحليلية الناقدة للواقع وتوسيع الأفق ورسم اتجاهات الانطلاق نحو تطوير المستقبل عبر منتجات علمية وفكرية مختلفة.وللمذاكرة الجماعية التي قد ترافق الاستعداد للاختبار دورها في الإلمام بمعلومات ووجهات نظر تجاه القضايا قد لا يتعرف عليها الطالب لو لم يخضع لضغط هذا الاختبار، ويحتاج للتعاون مع زملائه وأقرانه من نفس التخصص والمجال، كما أن هناك نقطة تعتبر الأهم، وهي أن الاستعداد لهذا الاختبار فرصة ذهبية للإبحار في مجالات التخصص وتحديد الميول واختيار عنوان الرسالة لمن لم يختره أثناء دراسة المقررات، فغالبًا ينصح الأساتذة والمختصون طلابهم بعدم الاستعجال في اختيار عناوين اطروحاتهم إلى ما بعد الاختبار الشامل، حيث تتأكد قدرات الطالب على تمكنه من امتلاك الادوات المفهومية والمنهجية في تخصصه العلمي والتي ربما يجد فيها ما يناسب ميوله وتفكيره. والامتحان الشامل من اسمه شامل لشموله جميع المقررات والأطر النظرية للتخصصات المعنية التي يجب على طالب الدكتوراه أن يكون على إلمام كامل واضح فيها. ويهدف الامتحان الشامل إلى تقويم الطالب تقويمًا شاملاً وتحديد أهليته للانتقال الى مرحلة الخبير العالم المتخصص في مجال العلم المعني إذ ينتقل من مسمى طالب دكتوراه إلى مرشح دكتوراه ويبدأ مرحلة الأطروحة والكتابة، إذ يتم التركيز على قياس جانبين هامين هما الجانب المعرفي (ويهدف إلى قياس قدرة الطلبة عمقًا وشمولًا على استيعاب موضوعات التخصص الرئيس والتخصصات الفرعية المساندة)، والجانب التحليلي (ويهدف إلى قياس قدرة الطلبة على التحليل وإحداث التكامل بين المفاهيم والاستنتاج، واقتراح الحلول المناسبة لما يعرض عليهم من أسئلة ومشكلات. ويعد اجتياز الامتحان الشامل شرطا ضروريا لتسجيل أطروحة الدكتوراه بينما عدم تمكن الطالب من اجتيازه بعد الفرصة الثانية يتسبب في طي قيده وإنهاء مشواره العلمي. وعلى طالب الدكتوراه أن يكون على استعداد كامل لمواجهة استحقاق الامتحان الشامل؛ استعدادًا جسدياً ونفسيًا ومعرفياً وذهنيًا بمشاعر إيجابية حافزة. ويفترض أن يكون الطالب مستعدا للجواب على أي سؤال محتمل من حقل تخصصه حتى وأن لم يدرسه في السنة التحضيرية، مثلا: إذا كنت طالباً للتاريخ القديم فمن المفترض أن تكون مهيئا للاجابة عن أي سؤال عن الحضارات القديمة! وإذا كنت طالبا في الفلسفة فلا عذر لك من معرفة وفهم تاريخ الافكار الفلسفية برمتها.


تداعت إلى ذهني تلك الفكرة وأنا اتابع وقائع مناقشة اطروحة الدكتوراه للطالب أحمد ضيف الله في قاعة علي مبارك بكلية دار العلوم قسم الفلسفة عن المسؤولية والالتزام الخلقي في الفكر الشرقي والإسلام دراسة مقارنة. بإشراف أ.د. السيد رزق الحجر ومساعده أ.د. يوسف عبدالفتاح فرج عضوي لجنة المناقشة فضلا عن الاستاذة الدكتورة فاطمة إسماعيل استاذة فلسفة العلوم في جامعة عين شمس مناقشا خارجيا والاستاذ الدكتور مختار محمود عطاءالله استاذ الفلسفة الإسلامية في كلية دار العلوم مناقشا داخليا.

كانت مناقشة أكاديمية على درجة عالية من الجودة والصرامة. استهلها المناقش الأول دكتور مختار عطاء الله بجملة من الملاحظات المنهجية والنظرية الدقيقة على مدى ساعة ونصف شرح الأطروحة تشريحا مهنيا أكاديميًا أفقيا وعموديا بحكمة العالم الخبير بالمفاصل والتفاصيل وجاءت مداخلة الدكتورة فاطمة إسماعيل لتمنح المناقشة بعدا فلسفيا حينما شددت على أهمية أن تلامس الاطروحة قضايا الأخلاق في عالمنا الراهن. إنها كلية العلوم اسمى على مسمى حارس العلم وأبوابه ولا شيء يمر هنا مرور الكرام إذ تعد كلية دار العلوم بجامعة القاهرة أقدم وأعرق مؤسسة أكاديمية عربية إذ يعود تاريخ إنشاءها إلى ١٨٧٢م ثم تطورت إلى أن أصبحت إحدى مدارس التعليم العالي في مصر، وظلت إلى أن ضُمّت لجامعة القاهرة عام 1946م، وأصبحت تسمى كلية دار العلوم محتفظة بإسمها التاريخي الأثير. وتعود علاقتي بها إلى عام ٢٠١٦م حينما اشتركت في أعمال المؤتمر الدولي الثامن ( الاخلاق والتربية في العالم المعاصر) 16-19 إبريل ٢٠١٥ بورقة بحثية بعنوان الأخلاق والتربية في عالم متغير. وبسبب الحرب والعاصفة لم اتمكن من المشاركة المباشرة إذ تقطعت بي السبل حينها في المملكة العربية السعودية بعد مشاركتي في المؤتمر الدولي الأول عن العلوم الإنسان أكاديميا ومنهجيا رؤى استشرافية في جامعة الملك سعود في الرياض ٦ إبريل ٢٠١٥م وقد أخبرني صديقي الدكتور صادق هزبر الذي كان طالب دكتوراه في كلية دار العلوم حينها بوجود ورقتي البحثية في كتاب المؤتمر. وحينما قدمت إلى القاهرة ذهبت إلى الكلية وقابلت عميدها

الأستاذ الدكتور عبدالراضي محمد عبد المحسن عميد كلية دار العلوم وصاحب مبادرة عودة الوعي وأهداني مشكورا كتاب المؤتمر ايها.

ومن حينها لم تنقطع صلتي بدار العلوم إذ حرصت على حضور فعاليتها الأكاديمية وكان المؤتمر الحادي والثلاثين للجمعية الفلسفية المصرية بعنوان الفلسفة والمستقبل١١-١٣ ديسمبر ٢٠٢١ فرصة طيبة لزيارة دار العلوم على مدى ثلاثة أيام متواصلة وقد تشرفت بقرأة كلمة الوفود العربية المشاركة بالمؤتمر. وأمس كانت فرصة طيبة لزيارتها وحضور وقائع المناقشة.