في عصر تتسارع فيه وتيرة التطور التكنولوجي، باتت منصات التواصل الاجتماعي تمتلك قدرات غير مسبوقة على فهم سلوك المستخدمين وتوقع رغباتهم.
وفي مقدمة هذه المنصات، يبرز تطبيق تيك توك كأحد أكثر التطبيقات إثارة للجدل، حيث يُتهم بامتلاك خوارزميات فائقة الذكاء قادرة على اختراق الحواجز النفسية للمستخدم والوصول إلى رغباته الدفينة قبل أن يدركها بنفسه.
هذه القدرة المذهلة على التنبؤ بالاهتمامات والميول تثير تساؤلات جوهرية حول الخصوصية والتأثير النفسي وحدود التلاعب الرقمي بالعقول.
يعتمد تطبيق تيك توك على خوارزميات تعلم آلي متقدمة تحلل سلوك المستخدمين بدقة مذهلة.
تحتاج المنصة فقط إلى معلومة واحدة حاسمة لفهم رغباتك: مقدار الوقت الذي تقضيه في مشاهدة محتوى معين. في كل ثانية تتوقف فيها أو تعيد مشاهدة مقطع فيديو، يكون التطبيق يراقبك ويسجل سلوكك.
تجمع المنصة إشارات سلوكية متعددة من تفاعلات المستخدمين، بما في ذلك الإعجابات والتعليقات والمشاركات ومدة المشاهدة. ويستخدم النظام هذه البيانات الضخمة لبناء نموذج دقيق لاهتمامات كل مستخدم بشكل فردي.
الهدف النهائي للخوارزمية ليس بالضرورة عرض محتوى يتوافق مع الاهتمامات الحقيقية للمستخدم، بل تعظيم التفاعل ووقت المشاهدة عبر استغلال السلوك الإدماني.
• الأنفاق الرقمية
يستخدم تيك توك تقنية تُعرف باسم "الأنفاق الرقمية" أو "rabbit holing"، حيث يوجه المستخدمين تدريجياً نحو أنواع محددة من المحتوى بناءً على تفاعلاتهم الأولية.
عندما تبدأ بمشاهدة مقاطع فيديو حول موضوع معين، يقوم النظام بتقديم المزيد من المحتوى المشابه، مما يدفعك أعمق في نفق موضوعي محدد.
وتشير الأبحاث الأكاديمية إلى أن هذه الخوارزمية تعمل كصندوق أسود غامض، ليس فقط بالنسبة للعامة والجهات التنظيمية، بل حتى لشركة تيك توك نفسها إلى حد ما.
ولا يوجد من يكتب أكواداً برمجية تستهدف شخصاً معيناً يعاني من اضطراب نفسي محدد، ولكن الخوارزمية تتعلم من البيانات وتتنبأ بالمحتوى الذي يثير الاهتمام.
• كشف الرغبات المخفية
من أبرز الظواهر المثيرة للجدل قدرة تيك توك على الكشف عن جوانب من شخصية المستخدم قد لا يكون واعياً بها بعد.
وهناك مقالات وشهادات شخصية حملت عناوين مثل "خوارزمية تيك توك عرفت ميولي الجنسية قبل أن أعرفها بنفسي"، مما يوضح كيف يمكن للمنصة أن تقدم انعكاسات عميقة عن الذات للمستخدم، وتجلب أفكاراً ومشاعر كامنة إلى السطح.
وتظهر الدراسات أن الخوارزمية تحقق تقديرات سياسية ونفسية دقيقة للغاية حتى في غياب مدخلات واضحة من المستخدمين مثل الإعجابات والتعليقات.
هذا الأمر يثير قلقاً كبيراً لدى المستخدمين حول مدى ما "يعرفه" التطبيق عنهم، مما يخلق حالات من الارتباك والانزعاج بسبب الشعور بفقدان السيطرة.
• تحديات أخلاقية
يحذر الباحثون من أن الخوارزمية قد تستغل نقاط ضعف المستخدمين، خاصة عندما يتعلق الأمر بمحتوى معين.
إذا تنبأ النظام بأن مستخدماً معيناً أكثر عرضة لنوع محدد من المعلومات المضللة أو المحتوى الضار، فقد يدفعه إلى أنفاق رقمية خطيرة تضلله أو تفاقم تحديات صحته النفسية أو اضطرابات الأكل.
وأظهرت الأبحاث أن خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها تيك توك، تقدم للمراهقين ما يصفه البعض بـ"نظام غذائي من الظلام" عبر الإنترنت.
وهذا دفع المدعين العامين في عدة ولايات أمريكية إلى رفع دعاوى قضائية ضد تيك توك وميتا، مؤكدين أن خوارزميات هذه المنصات تفرض على الأطفال تدفقاً مستمراً من المحتوى المسيء.
• أرقام وإحصائيات
تظهر البيانات البحثية أن المستخدمين الجدد يشاهدون في أول 1000 مقطع فيديو محتوى يتم اختياره بناءً على تنبؤات تيك توك حول تفضيلاتهم بنسبة تتراوح بين الثلث والنصف.
وبمرور الوقت، يزداد الوقت اليومي الذي يقضيه المستخدمون على المنصة بشكل ملحوظ، من حوالي 29 دقيقة في اليوم الأول إلى 50 دقيقة في اليوم الـ 120.
وتأتي معظم الزيارات من صفحة "For You" التي يوصي فيها تيك توك بالمحتوى لكل مستخدم بشكل شخصي.
الحسابات ذات المتابعين الأقل تحصل على أكثر من 75% من الانطباعات من هذه الصفحة، مما يؤكد التوزيع المتوازن للخوارزمية.
• جدل قانوني
في ظل هذه القدرات المثيرة للقلق، يطالب المشرعون في نيويورك وولايات أمريكية أخرى بفرض قيود على خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي.
وهناك مقترحات تشريعية تهدف إلى حظر استخدام المنصات للخوارزميات في تقديم المحتوى للأطفال دون موافقة الوالدين.
وردت عمالقة التكنولوجيا مثل فيسبوك وإنستغرام وتويتر وتيك توك برفع دعاوى قضائية للطعن في هذه القوانين باعتبارها غير دستورية.
في قضية بارزة، منع قاضٍ فيدرالي ولاية أركنساس من تطبيق قانون سلامة وسائل التواصل الاجتماعي، مدعياً أن القانون واسع النطاق وغامض بشكل غير دستوري.
وتدعو بعض الأوساط القانونية إلى تعديل المادة 230 من قانون آداب الاتصالات الأمريكي، الذي يمنح حصانة قانونية لمنصات التواصل الاجتماعي، بحيث يشمل معياراً للشخص العاقل يجبر تيك توك على إعادة النظر في كيفية فحص ومعالجة المحتوى على موقعها.
ويمثل تيك توك ثورة في فهم السلوك البشري رقمياً، لكنه يطرح أيضاً تساؤلات جوهرية حول الخصوصية والتأثير النفسي والمسؤولية الأخلاقية.
قدرته على التنبؤ بالرغبات قبل أن يدركها المستخدم نفسه تجعله أداة قوية للغاية، لكنها أيضاً محفوفة بالمخاطر إذا لم يتم تنظيمها بشكل مناسب.
والسؤال المطروح اليوم: هل نحن مستعدون لمنح التطبيقات هذا القدر من السلطة على عقولنا الباطنة؟