في مدينة تعز، التي أنهكتها الحرب والحصار، لم تسلم حتى مقاعد الدراسة من جشع المتنفذين. فقد تحوّل التعليم الأهلي، خلال سنوات الحرب، إلى واحد من أكبر مصادر الدخل غير المشروع لقيادات حزب الإصلاح، الذين استغلوا ضعف التعليم الحكومي لصناعة إمبراطورية مالية جديدة تحت لافتة “المدارس الخاصة”.
تقول أم هناء (31 عاماً)، وهي أم لطفلة تدرس في إحدى المدارس الأهلية وسط المدينة: “اضطررت لتسجيل ابنتي رحمة في مدرسة خاصة بعد أن انهار التعليم الحكومي، لكني اكتشفت لاحقاً أن هذه المدارس ليست سوى تجارة حرب... التعليم فيها سلعة تُباع لمن يستطيع الدفع فقط”.
وتضيف بحسرة: “دفعت 340 ألف ريال رسوم تسجيل، و100 ألف للحافلة، دون أن ألحظ أي تحسن في مستوى ابنتي... الصف الواحد فيه أكثر من 50 طالباً”.
أرباح فلكية ورواتب مهينة
تضاعفت رسوم المدارس الأهلية في تعز حتى تجاوزت 340 ألف ريال (150 دولاراً) في بعض المدارس الثانوية، في حين تتقاضى المعلمات رواتب لا تتجاوز 25 ألف ريال شهرياً، وفق شهادات حصل عليها موقعنا من معلمات يعملن في عدد من المدارس الخاصة.
تقول سهام، مدرسة قرآن كريم منذ عام: “أتقاضى 25,500 ريال فقط، ومع ذلك يُقتطع منا 500 ريال شهرياً تحت مسمى رسوم إدارية”. فيما تؤكد نجوى، مدرسة تربية إسلامية منذ سبع سنوات، أنها لم تتجاوز راتب 25 ألف ريال، أما أنيسة، معلمة اللغة العربية منذ تسع سنوات، فتتقاضى 30 ألف ريال فقط.
مدير إحدى المدارس الأهلية – رفض الكشف عن هويته – كشف أن “أغلب مالكي المدارس يبتزون المعلمات ويجبرونهن على الكذب بشأن الرواتب، مع وعود زائفة برفعها، بينما يجني الملاك أرباحاً ضخمة على حساب المعلمين والطلاب”.
فساد منظم تحت غطاء التعليم
مصدر تربوي في مكتب التربية بتعز وصف المشهد بأنه “عبث جنوني”، مؤكداً أن “قيادات الإصلاح بنت مئات المدارس الأهلية خلال سنوات الحرب، أغلبها دون تراخيص نظامية، وتفتقر لأدنى المعايير الفنية أو الإدارية”.
وأضاف المصدر أن “قيادات الحزب عيّنت مدراء من عناصرها لإدارة هذه المدارس، فيما يتخلى أولئك المدراء عن وظائفهم الحكومية لصالح الاستثمار في التعليم الأهلي”.
وأشار إلى أن المدارس الأهلية تنتشر عشوائياً في أحياء مثل صالة، الكهرباء، الدفاع الجوي، والثلاثين، بل وُشيد بعضها إلى جوار مدارس حكومية قائمة، في سعي واضح لسحب الكادر والطلاب منها وتحويل التعليم إلى مشروع تجاري بحت.
تدخل المحافظ شمسان
وفي خطوة وُصفت بأنها “ضربة قاصمة” لاحتكار التعليم، أصدر محافظ تعز نبيل شمسان، الثلاثاء 11 نوفمبر 2025، القرار رقم (137) لسنة 2025م، لتنظيم وتحديد الرسوم الدراسية في المدارس الأهلية والخاصة للعام الدراسي 2025-2026م.
وينص القرار على تصنيف المدارس إلى ثلاثة مستويات، وتحديد رسوم موحدة تشمل التسجيل والأنشطة والوثائق، مع إعفاء أبناء الشهداء والجرحى من الرسوم في جميع المدارس الأهلية.
كما أقرّ فرض غرامات على المدارس المخالفة تعادل قيمة الزيادة التي تفرضها على الطلاب، وإلزامها بإعادة المبالغ الزائدة لأولياء الأمور، مؤكداً أن القرار يسري فوراً مع متابعة ميدانية من مكتب التربية ومديري المديريات.
أرقام تكشف الكارثة
تشير إحصائيات رسمية إلى وجود 202 مدرسة أهلية في المناطق المحررة من تعز، إلى جانب 843 مدرسة حكومية، منها عشرات تعرضت للتدمير الجزئي أو الكلي بسبب الحرب، فيما حولت فصائل عسكرية تابعة للإصلاح بعض المدارس الكبرى، مثل “سبأ”، إلى مقرات عسكرية حتى اليوم.
وبات في بعض الأحياء أكثر من عشر مدارس أهلية صغيرة متلاصقة، كالأحياء السكنية في “الضربة” و”المسبح”، ما حوّل التعليم في المدينة إلى سوق مفتوحة يديرها المتنفذون، بينما يدفع المواطن الثمن من قوت يومه.
خلاصة المشهد
بين انهيار التعليم الحكومي، واستغلال المعلمين، وتحويل المدارس إلى مشاريع خاصة تحت غطاء حزبي، يقف آلاف أولياء الأمور في تعز أمام معادلة قاسية: إما تعليم مكلف لا يضمن الجودة، أو مدارس حكومية مدمّرة بلا معلمين ولا انتظام.
لكن القرار الأخير للمحافظ شمسان أعاد بعض الأمل إلى المواطنين الذين يرون فيه خطوة جريئة لكبح فوضى التعليم الأهلي، وكشف شبكة المصالح التي حولت حق أطفالهم في التعلم إلى تجارة تدر الملايين.