كشف صندوق النقد الدولي أن اليمن يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية والاقتصادية في العالم، محذرًا من أن البلاد تقف على شفا انهيار اقتصادي شامل ما لم تُتَّخذ إجراءات عاجلة وجريئة لإنقاذ ما تبقى من مقومات الدولة.
وأوضح الصندوق، في تقريره الصادر عقب استئناف مشاورات المادة الرابعة مع اليمن للمرة الأولى منذ أحد عشر عامًا، أن الحرب المستمرة منذ عام 2014 تسببت في انكماش الناتج المحلي الحقيقي بنسبة 27% وتدهور حاد في متوسط دخل الفرد، في حين قفز الدين العام إلى أكثر من 100% من الناتج المحلي الإجمالي في المناطق المحررة.
وأشار التقرير إلى أن الاقتصاد اليمني يعيش مرحلة حرجة للغاية، بعد أن أدت الحرب إلى تعطيل المؤشرات الاقتصادية الرئيسية، وإفشال برامج الإصلاح السابقة، بينما تسبب توقف صادرات النفط منذ عام 2022 في حرمان الحكومة من أهم مصادر الإيرادات، وتحول اليمن من مصدّر للطاقة إلى مستورد لها.
وأضاف أن الإيرادات الحكومية تراجعت من 22.5% من الناتج المحلي عام 2014 إلى أقل من 12% في 2024، في حين انخفضت الاحتياطيات الأجنبية إلى ما دون مستوى شهر واحد من الواردات رغم الدعم السعودي الذي بلغ ملياري دولار خلال عامي 2023 و2024. كما اتسع العجز في الحساب الجاري إلى 11% من الناتج المحلي، ما يعكس هشاشة الوضعين المالي والخارجي.
ولفت التقرير إلى أن معدل التضخم بلغ 27% في 2024 وارتفع إلى 35% منتصف 2025، نتيجة تدهور سعر صرف الريال بنسبة 30% منذ بداية العام، قبل أن تنجح الحكومة مؤقتًا في كبح الانهيار عبر حزمة إجراءات صارمة، شملت تأسيس اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات، وإلغاء تراخيص شركات صرافة متلاعبة، ومنع التعامل بالعملات الأجنبية داخل السوق المحلية، الأمر الذي ساعد على استقرار نسبي للأسعار وتحسن محدود في قيمة الريال.
وفي تحليله للوضع المالي، أكد الصندوق أن توقف إيرادات النفط أجبر الحكومة على تقليص النفقات العامة بنحو 5.4 نقاط مئوية من الناتج المحلي، وأن المساعدات السعودية المباشرة ساهمت في خفض العجز المالي إلى 1.9% عام 2024. لكنه حذر في الوقت ذاته من أن هذه الإجراءات لن تكفي لاستعادة الاستدامة المالية دون تنفيذ إصلاحات هيكلية عميقة تُعيد ضبط الإيرادات والإنفاق وتحد من التمويل النقدي للعجز.
ودعا التقرير إلى استعادة السيطرة الكاملة على الموارد العامة عبر توحيد الرسوم الجمركية والضريبية وضبط تحويلات المحافظات وتعزيز الرقابة على الموانئ والمنافذ البرية. كما أوصى بترشيد دعم الكهرباء تدريجيًا، وتحسين تحصيل الفواتير، ومكافحة الفساد في عقود شراء الطاقة، مع توجيه الإنفاق نحو الخدمات الأساسية والحماية الاجتماعية للفئات الأشد فقرًا.
وحثّ الصندوق البنك المركزي اليمني على مواصلة سياسة كبح التضخم، ومنع التمويل النقدي للعجز، واعتماد سعر صرف مرن تحدده قوى السوق مع ضمان الشفافية في إدارة النقد الأجنبي. كما شدد على ضرورة تعزيز الرقابة المصرفية ومكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، خاصة بعد تصنيف واشنطن لمليشيا الحوثي كمنظمة إرهابية أجنبية، ما دفع العديد من البنوك إلى نقل مقارها إلى عدن حفاظًا على ارتباطاتها الدولية.
وفي جانب التوقعات، رجّح التقرير انكماش الاقتصاد بنسبة 0.5% خلال 2025 قبل أن يبدأ تعافيًا تدريجيًا يصل إلى نمو 2.5% بحلول عام 2030، مدفوعًا بتحسن الصادرات غير النفطية وتحويلات المغتربين وزيادة الاستثمارات في الزراعة والطاقة. كما توقع تراجع التضخم في النصف الثاني من العام الجاري مع استقرار سعر الصرف وتحسن المعروض من السلع الغذائية.
وأكد الصندوق أن هذه التوقعات الإيجابية لن تتحقق إلا في ظل استقرار سياسي ودعم دولي مستمر، محذرًا من أن أي تصعيد عسكري جديد أو اضطرابات داخلية قد يفاقم الأزمة ويقوّض جهود الإصلاح.
واعتبر التقرير أن التمويل السعودي الأخير بقيمة 368 مليون دولار خطوة مهمة لدعم الموازنة وقطاعي الطاقة والصحة، لكنه شدد على أنه غير كافٍ وحده لإنقاذ الاقتصاد، داعيًا إلى تحرك دولي أوسع لمساندة اليمن ماليًا وتقنيًا.
واختتم الصندوق تقريره بالتأكيد على أن إعادة بناء الاقتصاد اليمني تتطلب إصلاحات مؤسسية عميقة تشمل الحوكمة، ومكافحة الفساد، وإصلاح النظامين الضريبي والجمركي، وتحسين إدارة المالية العامة، وتعزيز الشفافية في الموارد، وتسريع تنفيذ المشاريع الإنمائية، وتوسيع استخدام الطاقة المتجددة، معتبرًا أن هذه الخطوات تمثل الركائز الأساسية لإنعاش الاقتصاد وإعادة الأمل لملايين اليمنيين بعد سنوات الحرب والانهيار.