تشهد أسواق محافظة تعز ازدهارًا غير مسبوق لتجارة المواد الغذائية المسرطنة، التي تباع للمستهلكين بأسعار زهيدة لا تتجاوز نصف قيمتها الأصلية، رغم قرب انتهاء صلاحيتها أو فسادها الكامل، لتتحول موائد الفقراء إلى حقول ألغام صحية تهدد حياتهم يوميًا.
غزو السموم للأسواق
متخصصون في مجال الأغذية قدّروا نسبة السلع التالفة والمسرطنة في أسواق تعز بما يقارب 60% من حجم التجارة الغذائية داخل المدينة، تُعرض بشكل بدائي على الأرصفة تحت أشعة الشمس الحارقة وبين الأتربة، ما يضاعف من خطورتها. ورغم علم الباعة بخطرها، إلا أن الرواج بين البسطاء والفقراء يزداد يومًا بعد آخر بفعل الأسعار المنخفضة.
يقول نبيل، بائع في الأربعين من عمره يعمل بهذا المجال منذ 8 سنوات: "نشتري البضائع من مخازن التجار في المدينة عند اقتراب صلاحيتها من الانتهاء، نعرضها بنصف السعر والناس يشترون بسبب ظروفهم المعيشية الصعبة.. والطلب يزداد كل عام."
الغش والابتزاز التجاري
الأمر لا يتوقف عند الفقراء، بل يمتد إلى كبار التجار الذين يمارسون الغش والابتزاز التجاري معًا. فبحسب تجار جملة، يتم تخزين المواد السليمة عمدًا حتى تقترب من التلف، ثم بيعها بسعر منخفض لتقليل الخسائر، ما يعني أن المستهلك يُحتال عليه في الحالتين: عندما ترتفع الأسعار في السوق، أو عندما تُباع له بضائع تالفة.
يؤكد التاجر عبد الله: "نضطر لبيع الأصناف بهذه الطريقة قبل تلفها، فتكاليف النقل والجمارك مرتفعة، ونحن لا نريد خسائر.. لكن المستهلك هو من يدفع الثمن."
الضحايا: المواطنون الفقراء
المستهلكون في تعز هم الحلقة الأضعف. فهم بين نارين: إما شراء السلعة السليمة بأسعار مرتفعة لا يستطيعون تحملها، أو اللجوء للمواد التالفة والمسرطنة التي تهدد صحتهم وأسرهم.
المواطن حسين محمود يلخص المأساة بقوله: "التجار جشعون، لا يهمهم إلا الربح ولو على حساب حياة المواطن المسكين."
أما أسامة الجعشني، شاب ثلاثيني يتردد على سوق المخلولة الشعبي، فيعترف بمرارة: "أعلم أن البضاعة فاسدة بسبب التخزين، لكن أحيانًا أشتريها لأنها رخيصة وحالتنا صعبة، ولم نتضرر حتى الآن."
الأحياء الفقيرة.. الوجهة المثالية للسموم
الباعة المتجولون يستخدمون مكبرات الصوت على متن سيارات أجرة قديمة للتسويق لبضائعهم في الأحياء الأكثر فقرًا داخل مديريات المظفر والقاهرة وصالة. وسوق المخلولة يعد أكبر مركز لتوزيع هذه المواد المسرطنة.
يقول البائع المتجول عبد الله: "الأحياء الفقيرة أفضل مكان للبيع، الناس يشترون لأنها تناسب أوضاعهم المادية.. نحن نربح جيدًا كل يوم."
رقابة غائبة وفساد حاضر
ورغم خطورة الظاهرة، فإن الأجهزة الرقابية في تعز غائبة عن المشهد، حيث يكتفي بعض موظفيها بالجباية وترك الأسواق تغرق بالمواد الفاسدة.
يكشف موظف في مكتب الصناعة والتجارة (رفض ذكر اسمه): "الجميع يعرف هذه الأسواق، لكن الاهتمام الحقيقي يتركز فقط على جمع الأموال، أما صحة المواطن فليست ضمن الأولويات."
وتؤكد جمعية حماية المستهلك أن ضعف الثقافة الاستهلاكية وغياب الرقابة فتح المجال أمام هذه الكارثة، حيث يشتري المواطن ما هو رخيص دون أن يدرك أنه يشتري السموم لعائلته.
محاولات خجولة للإنقاذ
خلال الأيام الماضية، نفذت لجنة رقابية في مديرية القاهرة حملة ضبط أتلفت عشرات الأطنان من المواد الفاسدة وأغلقت معامل وثلاجات ومطاعم مخالفة. مدير المديرية أحمد المشمر شدد قائلاً: "الملف حساس وخطير.. أرباح التجار تتحقق على حساب صحة الناس. نتخذ إجراءات رادعة، لكننا بحاجة لتعاون جميع الجهات لتعزيز الرقابة."
ثمن الفوضى: المستشفيات تغص بالضحايا
نتيجة هذه الفوضى، تستقبل المستشفيات في تعز يوميًا حالات تسمم غذائي خطيرة. الطبيب فؤاد نعمان يؤكد: "نحتاج إلى رقابة صحية صارمة ومحاسبة قانونية مشددة للتجار المتلاعبين.. حياة الناس ليست مجالًا للتجارب أو التجارة."
السؤال الصادم في نهاية التحقيق:
إذا كانت الأسواق تغرق بالسموم يوميًا، والمستشفيات تستقبل الضحايا باستمرار، والتجار يجنون الأرباح على حساب الأرواح.. فكيف تُسمح بدخول هذه المواد المسرطنة من المنافذ والمخازن تحت أعين الأجهزة المختصة؟.