في تحقيق ميداني استغرق أسبوعًا كاملًا، كُشف الستار عن فضيحة مدوّية في محافظة تعز، حيث توزّع منظمات دولية ومحلية مساعدات غذائية ودوائية منتهية الصلاحية أو قريبة الانتهاء، وسط تواطؤ مسؤولين محليين ومكاتب حكومية، ما يضع حياة الآلاف من المدنيين في دائرة الخطر.
تخزين فاسد.. ومساعدات تتحوّل إلى "سموم"
أظهرت التحقيقات أن العديد من المنظمات العاملة في المجال الإنساني لا تملك مخازن مطابقة للاشتراطات والمعايير الصحية، وتعمد إلى تخزين المساعدات لأشهر حتى تتلف، قبل أن تعلن عن توزيعها.
وخلال تقصّي الحقائق، التقى الصحفي محرم الحاج عشرات المتضررين الذين سردوا وقائع مؤلمة عن استلامهم أدوية فاسدة أو معدّلة تواريخها، لتُصبح المساعدات أحيانًا أكثر ضررًا من انعدامها.
شهادات صادمة من متضررين
فاطمة (40 عامًا) قالت إنها في مطلع 2023 تسلّمت دواء شارفت صلاحيته على الانتهاء (بفارق 3 أيام)، ولم يكن أمامها سوى تناوله رغم خطورته، لأن بديله لم يكن متاحًا.
أما عبدالله عدالي (45 عامًا) فاختار التخلص من الدواء الذي استلمه عبر منظمة إغاثية، وألقاه في القمامة. يقول: "لم يكن قرارًا سهلًا، لكنني فضّلت الحفاظ على ما تبقى من صحتي على المغامرة بدواء مجهول الفاعلية".
ويؤكد أحمد، شاب عشريني، أن جدته تتلقى أدوية ضغط بانتظام من إحدى المنظمات، ويقول: "في إحدى المرات لم يكن الدواء يحمل تاريخ انتهاء، وعندما سألت الصيدلاني قال لي: لا يهم، نكتب التاريخ الذي نريد!".
تزوير تواريخ وتكتم مخزني
أفاد مواطنون أن بعض الأدوية تأتي وقد طُبع على غلافها ختمان لصلاحيتين مختلفتين، ما يُشير إلى عمليات تزوير وتدليس ممنهجة. ويؤكد مراقبون أن غياب الرقابة سهّل تمرير هذه الأدوية دون محاسبة.
منال، سيدة أخرى، تقول إنها تناولت شرابًا للسعال تبيّن لاحقًا أنه منتهي الصلاحية منذ أشهر، وأضافت: "أعراض المرض زادت بعد تناول الدواء، لكن الصيدلاني تهرّب من الإجابة حين واجهته بتاريخ الصلاحية".
مسؤولون متورطون.. والموت يُوزّع بالمجان
الناشط طلال الشرجبي تحدّث عن صديقه المريض بالسكري، الذي فرح بحصوله على دواء مجاني من مستشفى حكومي بتعز، لكنه اكتشف لاحقًا أنه منتهي الصلاحية.
وتساءل الشرجبي: "من المسؤول عن وصول الأدوية المنتهية إلى المستشفيات؟ وأين دور مكتب الصحة؟ ولماذا تتقاعس الجهات الرقابية عن منع هذه الكارثة؟"
اعترافات من الداخل.. المنظمات تعلم وتغض الطرف
صحفي تواصل مع متطوّع في منظمة محلية، كشف له أن شحنة من الأدوية وصلت إلى مخزن تعاقدت معه منظمة دولية، وكانت غير صالحة، ومع ذلك تقرّر توزيعها على المواطنين. والكارثة أن هذا تم بعلم المنظمة الأممية، وفقًا لما أكّده المصدر.
رقابة وهمية وتواطؤ حكومي
تقول فروع منظمات أممية إنها تتعاقد مع جهات رقابية مستقلة، لكن في الواقع، الرقابة إما غائبة أو شكلية. وفي حالات كثيرة، تتحوّل الجهات الحكومية إلى أدوات ابتزاز بدلاً من حماية المواطنين.
ورغم محاولات التواصل مع هيئة المواصفات والمقاييس عبر "الواتساب" لطرح تساؤلات حول آليات فحص الأدوية، لم يتم تلقي أي رد.
أسئلة للرأي العام.. وإلى المحافظ
التحقيق يطرح أسئلة موجعة:
هل يعلم محافظ تعز، نبيل شمسان بما يحدث؟
ما سر صمت الجهات الرقابية على هذه التجاوزات الكارثية؟
من يحاسب المتورطين في صفقات السموم المغلفة بمسميات "إنسانية"؟
وفي غياب الإجابات، يقول التحقيق بوضوح:
"إذا استمر الصمت، فالكل شركاء في الجريمة"