دخلت الأزمة اليمنية مرحلة أكثر تعقيدًا وخطورة مع تصاعد التحركات العسكرية للمجلس الانتقالي في محافظتي حضرموت والمهرة، في تطور لا يعكس خللًا ميدانيًا فحسب، بل يكشف فشلًا سياسيًا عميقًا في إدارة المرحلة الانتقالية، تقف خلفه بالدرجة الأولى حالة العجز والتنازع داخل مجلس القيادة الرئاسي، الذي تحوّل من أداة إنقاذ إلى أحد أبرز أسباب الانسداد الراهن.
هذه التحركات لا يمكن فصلها عن البيئة السياسية الهشّة التي أنتجها مجلس القيادة منذ تشكيله، إذ فشل في بناء نموذج حوكمة موحد، أو فرض تسلسل قيادي واضح، أو حتى إدارة الخلافات بين مكوناته بآليات مؤسسية. وبدلًا من أن يكون المجلس مظلة جامعة لإعادة ترتيب المعسكر المناهض لمليشيا الحوثي، أصبح ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات وتضارب الأجندات.
منذ التاسع من ديسمبر الجاري، شرع المجلس الانتقالي في تعزيز انتشاره العسكري شرق البلاد، في خطوة وُصفت بمحاولة فرض أمر واقع. غير أن القراءة الأعمق تشير إلى أن هذه التحركات ما كانت لتحدث لولا الفراغ السياسي والأمني الذي صنعه مجلس القيادة نفسه، بعجزه عن بسط سلطته، وتردده المزمن في اتخاذ قرارات حاسمة، ورضوخه لمنطق التوازنات الهشّة على حساب الدولة.
خطورة ما يجري في حضرموت والمهرة لا تكمن فقط في البعد العسكري، بل في كونهما محافظتين ظلّتا بعيدتين نسبيًا عن صراعات النفوذ، وكانتا تمثلان آخر ما تبقّى من صورة «الاستقرار الممكن». اليوم، يتآكل هذا الاستقرار، لا بفعل مليشيا الحوثي، بل نتيجة صراع داخل معسكر يُفترض أنه يمثل الشرعية، ما يطرح تساؤلات جوهرية حول جدوى مجلس القيادة وقدرته على الاستمرار.
تمثل المحافظتان ثقلًا اقتصاديًا وأمنيًا بالغ الأهمية، وترتبطان مباشرة بأمن البحر العربي والملاحة الدولية، إضافة إلى موقعهما الحساس بالنسبة للمملكة العربية السعودية. ومع ذلك، أخفق مجلس القيادة في تقديم رؤية واضحة لإدارة هذه الأهمية، وترك المجال مفتوحًا أمام قوى الأمر الواقع لتوسيع نفوذها، في غياب استراتيجية وطنية جامعة.
في هذا السياق، جاء الموقف السعودي حازمًا، حين وصفت وزارة الخارجية السعودية، في بيانها الصادر الخميس الماضي الموافق 25 ديسمبر، تحركات المجلس الانتقالي بأنها «أحادية». غير أن هذا الوصف، وإن بدا موجّهًا لطرف بعينه، يحمل في مضمونه إدانة غير مباشرة لمجلس القيادة الرئاسي، الذي عجز عن التنسيق مع شركائه، وفشل في ضبط مكوناته، وترك التحالف أمام أمر واقع لم يكن طرفًا في صناعته.
كشف البيان السعودي عن محاولة احتواء مبكرة للأزمة، عبر إرسال لجنة تفاوضية إلى عدن لسحب القوات من حضرموت واستبدالها بقوات «درع الوطن» المرتبطة برئيس مجلس القيادة. غير أن هذه المبادرة اصطدمت بجدار العجز اليمني الداخلي، حيث لم يمتلك المجلس لا الإرادة ولا الأدوات لفرض هذه الترتيبات، ما كشف هشاشته السياسية والأمنية.
ولم يتوقف التصعيد عند البعد العسكري، إذ لجأ المجلس الانتقالي إلى تحشيد سياسي داخل مؤسسات الدولة نفسها، عبر مسؤولين يتولون مناصب رسمية بقرار من مجلس القيادة. وهنا تتجلى المفارقة الصادمة: مجلس القيادة يشكو من تقويض الدولة، فيما هو من سمح بتشظّيها، ومنح مناصب سيادية دون ضمانات ولاء مؤسسي أو التزام بمرجعية الدولة.
أمام هذا الانهيار، دفع مجلس القيادة بـ«مجلس الدفاع الوطني» إلى عقد اجتماع في 26 ديسمبر، في خطوة بدت أقرب إلى رد فعل متأخر منها إلى قرار استراتيجي. وحمل الاجتماع دلالات خطيرة، أبرزها أن المجلس بات يشعر بأن سلطته مهددة، لا من الخارج فقط، بل من داخله، بعد أن فقد السيطرة على أدوات القوة والقرار.
طلب رشاد العليمي من التحالف اتخاذ تدابير لحماية المدنيين في حضرموت والمهرة وفرض التهدئة، عكس حقيقة مرة مفادها أن الدولة، ممثلة بمجلس قيادتها، لم تعد قادرة على حماية مناطقها أو إدارة أزماتها دون تدخل خارجي مباشر، وهو اعتراف ضمني بفشل مشروع «نقل السلطة» الذي وُعد به اليمنيون كنقطة بداية لاستعادة الدولة.
الضربات الجوية السعودية التحذيرية، التي استهدفت مواقع لقوات «النخبة الحضرمية»، شكّلت رسالة حاسمة، ليس فقط للمجلس الانتقالي، بل لمجلس القيادة نفسه، مفادها أن ترك الفوضى تتمدد داخل مناطق حساسة لن يكون مقبولًا. كما كشفت هذه الضربات أن التحالف بات مضطرًا للتدخل لضبط اختلالات صنعها شركاؤه المحليون.
في المقابل، حاول المجلس الانتقالي تثبيت مكاسبه ببيان سياسي مرن في لغته، صلب في مضمونه، ما يعكس قناعة بأن ميزان القوة على الأرض بات يسمح له بفرض شروطه. وهذه القناعة ما كانت لتترسخ لولا الأداء المرتبك لمجلس القيادة، الذي أدار الخلافات بسياسة التجاهل حتى انفجرت.
في جوهر الأزمة، لا يدور الصراع حول حضرموت أو المهرة فقط، بل حول من يمتلك القرار في المناطق المحررة، ومن يدير الدولة فعليًا. ومع استمرار مجلس القيادة في إدارة البلاد بعقلية التوافق العاجز، لا بعقلية الدولة، ستتكرر الصراعات بأشكال أكثر عنفًا.
الخطر الأكبر أن هذا التفكك الداخلي يمنح مليشيا الحوثي فرصة استراتيجية ثمينة؛ فبينما تستنزف قوى الشرعية بعضها البعض، تواصل المليشيا ترسيخ نفوذها دون تكلفة تُذكر. وهنا يتحمل مجلس القيادة مسؤولية تاريخية، إذ فشل في تحويل التعدد داخل الشرعية إلى مصدر قوة، وتركه يتحول إلى صراع.
وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، واستمرار مجلس القيادة في أداء دور المتفرج أو الوسيط بين أطراف يُفترض أنه يقودها، يبقى مستقبل اليمن مفتوحًا على سيناريوهات قاتمة، قد تعيد إنتاج الحرب بأشكال جديدة، وتُطيل أمد معاناة بلد أنهكته التجارب الفاشلة والقيادات العاجزة.