أغلب هؤلاء يكتبون للهواء ولا يعرفون هل تصل حروفهم أم أنها مجرد ضجيج.. ليس لديهم من المعطيات إلا ما يسمعونه من الإعلام الموجّه.. لا سابق تجربة ولم يسبق أن مروا بمنعطفات خطرة وخبروا بأنفسهم كيف مآلات الأمور.
لا تكن طنجرة في الشارع يقلّبها الريح كيف يشاء، ولا تصوّب سهامك بطريقة تفضح ابتعادك عن واقع الأمور.
استمر بأسلوبك ودع الآخرين يواصلون بأساليبهم، كلاً حسب زاويته وموقع تأثيره، وراقب الأحداث بتواضع لترى دورة الزمن حين تكتمل وتعرف حينها أن من كنت تخالف طريقته لربما كان أكثر حرصا وأجدى أثرا، ولربما كان الأثر الطيب حاصل أسوبك وأسلوبه معا.
التسابق المحموم على التمترس مرض خطير، وانعدام القدرة على تفكيك المشهد المعقد أدعى للتريُّث، وتبقى سلامة المقصد باباً لكل فتح معرفي حتى مع وجود الأخطاء غير المتعمدة.
لا نريد حمَلة مباخر ولا سفهاء، بل مجتمعاً ناقداً لا تنطلي عليه الأكاذيب ولا يبخس الحقائق. مجتمع فطِن لا يخدعه دجال ولا يتحسّر فيه صوتٌ حريص.
اقرأ كتاباً قبل أن تكتب مقالا، واسأل قبل أن تجزم، وأطِل النظر قبل أن تتورط في توليد عداوة لا ناقة لك فيها ولا جمل.
هذا الفضاء الالكتروني الرحب متَّسَع للغبش، وبمقدورنا أن نجعل منه منصة للوعي.. وفي كل الأحوال على الناس أن يأخذوا حِذرهم من غبار الكلام.
قديماً كان الناس يستمتعون بالمعارك الكلامية والشعرية لأنها كانت تُراكِم أدباً وتثمر أساليب محاججة.
اليوم صار المشهد مثيرا للأسى والأسف، وتأثيراته المستقبلية فتاكة.
حينما تكون السفاهة ثقافة تحلّ اللعنة ويكون تسيُّد الكهنوت جزاءً وفاقا..
ثمة جرأة عجيبة على التطاول، وثمة زهد في التمحيص، وسهام جاهزة لا تكلّف نفسها عناء القراءة، والبعض لا يتورع حتى عن الخوض في الأعراض، وثمة منحنى تفسيري يعزف على الأمعاء الخاوية في شعب جائع يتمنى الريال.
ليست الطامة كامنة فيما نعانيه، بل في كيف نتناوله ونناقشه، لأن أسلوب التناول هو الكفيل بتحديد مفاتيح الحل.
بعض المنشورات ترقى لأن تكون جرائم نشر. والمشهد برمته خليط من الرداءة المثيرة للغثيان والمكرّسة للهوان: هناك من يوعز بالهجوم على قلمٍ ما ليس لأنه أخطأ بل لأنه على صواب أو لأن صوابه لا يصب في صالح الشلة أو المنطقة. وهناك أمواس جذلى جاهزة للإيلام، وذباب مستعد للتشويش، ومتهكّمون في قاع الصفاقة، ومترصّدون لالتقاط الأقنعة المتساقطة، ومشاهير يعمدون إلى إثارة الزوابع ويستعذبون تلقّي السباب لكي يصيروا "ترند"!
الحسد آفة المفلسين، والضجيج وظيفة الأواني الفارغة، والكلام الوعِر شوك الأكباد، والكلمة الطيبة تكسر العود اليابس.
حرية التعبير نعمة، والنقد مطلوب ولا أحد فوق مستوى النقد كائنا من كان، لكن النقد هو التقييم الموضوعي سلبا وإيجابا.. النقد لا يعني الشتم فالشتم خلق معيب والنقد فعل خلّاق.
للأسف، نحن اليوم شعب يتساهل في انتشار التفاهة. وجزء من النخبة ضالع في إضرام هذا الدخان السام.. في الأزمة الأخيرة حدث تلاسن معيب بين وزراء سابقين كانوا في أعلى المستويات.. يا له من انحدار.
ليست السياسات ولا التوجهات ولا المحاور الإقليمية من سيحدد مصيرنا، بل أخلاقنا.. ف"إنما الأمم الأخلاق"، ولا يغيّر الله ما بقوم "حتى يغيّروا ما بأنفسهم"، فلنغيّر ما بأنفسنا ولنبدأ بالكلام وأخطر ما في الحياة الكلام.
عادل الأحمدي
24 ديسمبر 2025