بعد أكثر من عقد على انقلاب الميليشيا الحوثية واندلاع الأزمة اليمنية، لم يعد المواطن قادرًا على تحمل المزيد من الصراعات والخصومات العبثية بين المكونات السياسية المنضوية تحت مظلة الشرعية. فاليوم، لم يعد المواطن يؤمن بالشعارات والوعود، ولا يثق بالمشاريع الوهمية التي لا يرى أثرها في واقعه، بل بات يبحث عن ما يخفف من معاناته اليومية ويعزز شعوره بالأمان والاستقرار.
وفي ظل هذه الظروف العصيبة، يصبح من الضروري أن تتخلى بعض مكونات الشرعية عن خطاب العداء والكراهية، وأساليب المهاترات وتبادل الاتهامات والإساءات تجاه شركاء المعركة الوطنية. فالمعركة الحقيقية ليست بين المكونات السياسية نفسها، بل في مواجهة الانقلاب ومواجهة الأزمات الاقتصادية والإنسانية التي تنهك حياة المواطنين.
المطلوب اليوم هو التنافس في تطبيق النظام والقانون، وترسيخ الأمن والاستقرار، وتنفيذ المشاريع التنموية والخدمية والإنسانية، لا التنافس في تصعيد الخصومات أو تعزيز الانقسامات. كما ينبغي أن يكون التنافس منصبًا على تقديم الأداء الأفضل في الإدارة والقيادة والخطاب الإعلامي، والدعوة إلى توحيد الصف الجمهوري وإتاحة الحريات المسؤولة، بما يحقق مصالح المجتمع.
في هذه الأوضاع المأساوية، تبرز الحاجة الماسة إلى تحويل التنافس السياسي إلى تنافس تنموي بين المناطق والمحافظات المحررة. فتعز مدعوة اليوم لمنافسة مديريات الساحل الغربي، وشبوة لمنافسة مأرب، والمحافظات الشرقية، وفي مقدمتها حضرموت والمهرة، لمنافسة المحافظات الجنوبية في تقديم الخدمات، والأداء الأمني والإداري، وتطبيق القانون، ومجالات البناء والتنمية.
إن المشاريع الخدمية الأساسية من طرق ومياه وكهرباء ومدارس وجامعات ومستشفيات، والمشاريع الإنسانية الداعمة للأسر الفقيرة وشرائح الأيتام والمرضى والنازحين والمتضررين، لم تعد مجرد متطلبات، بل أصبحت معيارًا لقياس كفاءة القيادات المحلية وحرصها على التخفيف من معاناة المواطنين.
كما يتوجب في هذا الإطار إجراء مقارنة بين ما يقدمه الأشقاء من دعم للمناطق والمحافظات المحررة، مثل ما تقدمه المملكة العربية السعودية وما تقدمه الجمهورية التركية، أو بين ما تقدمه الإمارات العربية المتحدة وما تقدمه دولة قطر. فهذه المقارنة تعد فرصة لتقييم الأداء وتعزيز القدرة على جلب المزيد من الدعم. إن التنافس الإيجابي في استثمار المنح والمساعدات، وتنفيذ أكبر عدد ممكن من المشاريع التنموية والخدمية والإنسانية، سيعود بالنفع المباشر على السكان، ويجعل من المناطق المحررة نموذجًا يمكن البناء عليه في عملية استعادة الدولة.
إن المرحلة الراهنة تتطلب خطابًا وطنيًا جامعًا، وسلوكًا سياسيًا ناضجًا، وعملًا حكوميًا يضع خدمة الوطن والمواطن في مقدمة الأولويات. فاليمنيون لن يثقوا إلا بما يلمسونه على الأرض: أمن مستقر، وخدمات متطورة، ومشاريع تنموية تحسن حياتهم وتعيد إليهم الأمل بمستقبل أفضل.