طوال سنوات طويلة، كانت علاقته بالقرآن تعتمد على التلاوة أكثر من الفهم.
استمع له بأصوات الجميل، ركز على الإيقاع والمقام، ونسى معنى الكلمة، والآية.
وهكذا، تحولت القراءة إلى طقس صوتي جامد، إلى غناء، فالتلاوة ليست أكثر من غناء بمقامات الغناء المعروفة.
قبل فترة، قرر أن يقرأ القرآن بطريقة مختلفة.
قال لنفسه: لماذا لا أتعامل مع النص مباشرة، بدون وسطاء، بدون تفسيرات جاهزة.
بدأ يقرؤه كما يظهر له، بعين فضولية، وبتجربة شخصية، مستخدمًا الظاهراتية Phenomenology كمنهج للقاء النص دون تحيزات أو معاني مسبقة.
فماذا وجد؟
1. لغة القرآن ليست العربية المعيارية كما تعلم في المدرسة
لغة القرآن تختلف كثيرا عن العربية الكلاسيكية
هناك:
• حذف غير مكتمل، أحيانًا تترك الجملة دون إكمال.
• التفاتات بين الضمائر مفاجئة، تنتقل من الغائب إلى المخاطب ثم المتكلم.
• انتقالات في الموضوع من فكرة لأخرى دون إشارات ربط واضحة.
قد برى البعض أن هذه أخطاء، وقد تكون سمات نص حيّ، عاطفي، متدفّق، جدلي، وفي حالة توتر دائم. القران نص شفوي وشعبي بمعنى بساطة لغته وافتقارها للدقة وللقواعد الصلبة والمعياربة..
اللغة هنا عفوية وعشوائية وليست هادئة أو مرتبة، لا تعبر عن فكرة مكتملة، بل تتدفق لتعبّر عن اندفاع الرسالة اللحظية، الرد على اتهام او تكذيب او رفض.
2. السور ليست وحدات مكتملة
مع القراءة، أدرك أن كثيرًا من السور ليست نصوصًا مكتملة مستقلة، بل هي تجميعات لمقاطع مختلفة ومتفرقة زمانيا ومكانيا:
• موضوعات متعددة متجاورة.
• انتقال سريع بين أفكار وآيات.
• استثناءات، قفزات، وتوجيهات للمتلقي فجأة.
قد يكون هذا بسبب إشكاليات جمع القرآن. فالقرآن حفظ بشكل عشوائي في صحف متفرقة حتى زمن عثمان، والصحابة اختلفوا وتصارعوا بين عدة مصاحف. والمصحف الحالي لم يحتو على كل القرآن.
كل هذه الفراغات في الآيات والسور ليست شيئا عشوائيًا، بل جزء من طبيعة النص القرآني كخطاب يومي وطاريء وجدلي. الآيات نفسها كانت وقتية وكان ينظر لها على إنها متعلقة بلحظتها فقط.
القرآن نفسه كان ينفي نفسه وينسخ نفسه، وكان ينزل ردا على تحدبات معينة ثم يتغير ويغير نفسه. بل صار يعتقد أن نية جمع القرآن، مثلها مثل نية جمع الأحاديث، لم تكن واردة في حياة الرسول أو في زمن أبي بكر وعمر!
3. القرآن نص مفتوح… لا يكتمل إلا بالتفسير
النص نفسه غالبًا ما يكون غير مكتمل لغويًا ودلاليًا:
• الجملة ناقصة تبدأ أحيانًا ولا تكتمل.
• الفكرة غير مكتملة تُعرض بلا شرح كامل.
• الإشارة موجودة، لكن المعنى الكامل يحتاج حضور القارئ والمفسر معًا.
وهنا يأتي دور التفسير القرآني:
1. المفسر يكمل البناء اللغوي للجملة ويشارك في التأليف.
2. يملأ الفراغات المعنوية والدلالية.
3. يقدّم بعد ذلك المعنى الأرجح.
القرآن بهذا المعنى نص ناقص لا يكتمل الا بملء الفراغات، وتفسيرات القرآن كلها كانت ملأ لفراغات النص أو مشاركة في التأليف!.
لهذا نجد أن تفاسير القرآن تختلف كثيرًا، ولا تكاد تتفق على شيء أساسي.
على العكس من تفسير التوراة والإنجيل، الذي يبدأ مباشرة من المعنى لأن النص مكتمل بنيويًا والاختلافات التفسيرية محدودة، يبدأ التعامل مع القرآن دائما من إكمال وإعادة تركيب النص نفسه قبل أي تفسير.
الخلاصة
القرآن يستحق قراءة حيّة، واعية، متحررة، قراءة:
• نراه فيها كما هو، لا كما قيل لنا أن يكون.
• نفهم فيه المعنى، ولا نكتفي باللحن والغناء.
• نتعامل معه كنص جدلي وعاطفي، يحتاج حضورنا العقلي كثيرا والعاطفي قليلا.
اقرأوا القرآن بفضول…
دون قيود مسبقة، ودون الخوف من السؤال والدهشة. فكل العوامل البشرية التي تعتريه من لغة واختلاف وتاريخية وتوتر وتناقض وعادية وحماسة … لا تنفي إنه النص المقدس عند مئات الملايين.