آخر تحديث :السبت-15 نوفمبر 2025-12:49ص

تقديم الجزرة وتغليظ العصا

السبت - 15 نوفمبر 2025 - الساعة 12:22 ص

حسام ردمان
بقلم: حسام ردمان
- ارشيف الكاتب


السعودية تتجنب التصعيد في اليمن ، و تمضي نحو الشراكة الدفاعية مع واشنطن

ماهر أبو المجد

حسام ردمان


مركز سوث ٢٤


في بداية العام 2023 أقدمت الديبلوماسية السعودية على خطوتين جريئتين ؛ الأولى ابرام المصالحة مع ايران برعاية صينية ، والثانية هبوط السفير السعودي في اليمن محمد ال جابر بصورة علنية في مطار صنعاء لمفاوضة الحوثيين على مقترح سلام عرف باسم "خارطة الطريق".


مثّل هذا السلوك اعترفا ضمنيا بضرورة تقاسم النفوذ الإقليمي مع ايران ،و اقرارا باستعصاء الحل العسكري في اليمن . لكنه من جهة أخرى مثّل مناورة استراتيجية لتحييد التهديدات الأمنية من قبل "محور المقاومة" وتهيئة الظروف المناسبة لإطلاق مسارات جيوسياسية طموحة تعزز من الدور الإقليمي للرياض: الشراكة مع واشنطن (دفاعيا ، اقتصاديا ، نوويا) ، والتطبيع مع إسرائيل ضمن افق لحل الدولتين. وكان هذا التوجه السعودي متناغم مع رغبة بايدن بإحياء الاتفاق النووي مع ايران.


وفي سبتمبر 2023 بدأ النهج السعودي يأخذ بعدا عمليا ، حيث ابرمت واشنطن اتفاقية " التكامل الأمني والازدهار الشامل" مع البحرين تمهيدا لأخرى مع السعودية، وقد اثار هذا الحدث ردا إيرانيا بأسلوب "المنطقة الرمادية" حيث اقدم الحوثيون على استهداف موقع عسكري على الحدود السعودية ما أدى الى مقتل ضباط وجنود سعوديين و بحرينيين. ثم جاءت احداث السابع من أكتوبر التي جمدت المسارات الديبلوماسية في المنطقة و خلقت معادلة إقليمية جديدة.

الرياض .. عودة اقوى الى نهجها الطموح..

بعد مرور عامين على اندلاع الحرب في غزة ، قرر محمد بن سلمان استئناف مساره السابق من خلال زيارته الاستثنائية الى واشنطن في نوفمبر الجاري و التي يرتقب من خلالها الإعلان عن اتفاقات شراكة دفاعية و اقتصادية غير مسبوقة من ضمنها التزام صريح بالامن السعودي على غرار ما جرى قبل اشهر مع قطر.

وتبدو الرياض هذه المرة في موقف تفاوضي افضل مما كانت عليه قبل عامين. محور المقاومة صار اضعف ، إسرائيل أصبحت مصدر قلق لدول الإقليم و اكثر عزلة دوليا في حين يكتسب حل الدولتين زخما سياسيا وديبلوماسيا اكبر .


اما جماعة الحوثي في اليمن فلم تعد مشكلة سعودية وحسب ، وصارت معضلة إقليمية و دولية بعد تعطيلها لخطوط الملاحة ، في حين ان الجماعة صارت محاصرة سياسيا واقتصاديا اكثر من أي وقت مضى.


في المقابل اعلنت السعودية عن مظلة حماية نووية على خلفية اتفاق الشراكة مع باكستان ، كما استعادة الرياض نفوذها الجيوسياسي في سوريا و لبنان ، وقد مال ميزان التفاوض مع واشنطن بشكل نسبي لصالح الطرف السعودي في ظل الإدارة الامريكية الحالية التي تفضل النهج المعاملاتي ، بخلاف الإدارة السابقة التي كانت تسعى الى هندسة توازنات جيوسياسية في المنطقة.


كل هذا سمح للرياض في ابرام صفقة ثنائية كبرى مع ترامب دون الحاجة الى ربطها بملفات إقليمية اشمل ؛ يقدم بن سلمان استثمارات اقتصادية مع وعد مستقبلي بمسار التطبيع ، ويقدم ترامب ضمانات امنية مع وعد مستقبلي بحل الدوليتن ، وفي المحصلة فان عوائد و التزامات هذه الشراكة الاستراتيجية لم تعد مرتبطة عضويا مع مسار التطبيع مع إسرائيل ، و مع مآلات النووي الإيراني ، مع التسوية السياسية في اليمن.


وقد اثارت هذه الخطوة نوعين من ردود الفعل الغاضبة ، أولا من جانب تل ابيب التي سعت من خلال الكنيست الى اعلان ضم الضفة الغربية ، إضافة الى تصريحات سموترتش المسيئة للرياض و الرافضة لفكرة حل الدولتين. لكن ترامب تكفل بممارسة الضغوط الرادعة للسلوك الاسرائلي التصعيدي سواء في الضفة الغربية او حتى في غزة ولبنان.


ومن جهة أخرى قرر الحوثيون مع نهاية اكتوبر نقل خطابهم التصعيدي من البحر الأحمر الى العمق السعودي، مع التلويح بإمكانية ضربها عسكريا و تكثيف عمليات التحشيد البري و الصاروخي في الجبهات الحدودية. وقد تعاملت الرياض مع هذا التحدي بنفس كتيب الارشادات الذي تعاملت به مع طهران قبل عاميين : تحييد التهديدات الأمنية عبر الديبلوماسية و عرض مزيد من الحوافز لشراء الوقت.


احتواء ايران ، و تهدئة الحوثي..


خلال الفترة الماضية عملت الرياض على استمالة طهران من خلال ثلاثة محفزات: الدفع نحو استئناف مسار التفاوض النووي مع أمريكا و الغرب و الضغط لمنع التصعيد العسكري الواسع في الإقليم ، وثانيا تخفيف الضغوط السياسية على حزب الله لنزع سلاحه، ثم ثالثا و الأهم استئناف جهود الوساطة الديبلوماسية مع جماعة الحوثي و النظر في إمكانية تخفيف الضغوط الاقتصادية عليه.


تدرك الرياض ان استئناف مسار خارطة الطريق في اليمن لم يعد بالأمر الهين ، فهي مقيدة بفيتو امريكي بعد قرار تصنيف الحوثيين كجماعة إرهابية "FTO" والذي هو بدوره مرتبط بسياسات الضغط الأقصى التي ينتهجها ترامب ضد ايران و حلفائها .كما ان خارطة الطريق صارت مهددة بتعطيل إسرائيل التي سوف تحرص على حرمان الحوثي من تنمية موارده الاقتصادية المتمثلة بمطار صنعاء وميناء الحديدة ، وقد تعمل باستمرار على ضربها حتى دون تبني المسؤولية عبر "حرب الظل" وهو ما جرى بالفعل مؤخرا.


وبرغم هذه القيود ، فقد سارعت الرياض الى التواصل مع الحوثيين بمجرد وقف الحرب في غزة وهو ما توج بلقاء مباشر معهم في مسقط نهاية أكتوبر 2025، ولأنها تعجز عن ضمان فتح المطار و الميناء و رفع العقوبات الامريكية، فقد عرضت للحوثين جملة امتيازات اقتصادية غير معلنة ، منها السماح لهم باستخراج تراخيص قانونية من مقر الحكومة الشرعية في عدن لإنشاء شركة طيران ، بحيث يتحملوا هم مسؤولية تشغيلها() .

كما ناقش الحوثيون مع الرياض فرص تخفف قيود "لجنة تنظيم وتمويل الاستيراد" ، وهذه اللجنة شكلتها الحكومة اليمنية و البنك المركزي كجهة مشرفة على إدارة عملية استيراد البضائع و حرمان أي شركات حوثية من منافع الحركة التجارية. وقد تضغط الرياض كي تسمح هذه اللجنة لشركات حوثية بالانخراط في عملية استيراد البضائع الى ميناء الحديدة.


وبدلا من تسليم المرتبات لموظفي الدولة في مناطق الحوثي، اعادت السعودية اعتماد قوائم الهبات المالية للمشايخ القبليين و لبعض القيادات الحوثية ، وهي بذلك تساهم في تخفيف نفقات الحوثي على شبكاته الزبائنية بسبب ضائقته المالية() .

في المحصلة تدرك الرياض انها مسألة وقت وتكون صاحبة الأفضلية الإقليمية عقب زيارة بن سلمان لواشنطن ، و بعد الشراكة الدفاعية سوف يكون تهديد ايران وحلفائها للامن السعودي أكثر كلفة ، وسيكون الموقف الاستراتيجي السعودي اقوى في اليمن سواء سلما او حربا .


في المقابل تبدو ايران مضطرة الى مسابقة الوقت لتحسين موقفها الاستراتيجي امام الرياض ، وهي تقف امام خيارين:

اما الضغط و التلويح بالقوة لانتزاع اقصى قدر من الضمانات و الحوافز السعودية مع التسليم بان صفقة الرياض مع واشنطن قد صارت امر واقع ، وان عواقب التخلي عن سياسة حسن الجوار اكبر بكثير من العوائد ، خصوصا وان سيناريو المواجهة مع إسرائيل و أمريكا ما زال قائما و افضل طريقة لتخفيف مخاطر هذا السيناريو تتمثل في الحفاظ على الموقف العربي الرافض للتصعيد الإقليمي.


واما توريط الرياض مجددا بحرب ساخنة في اليمن واسقاط الهدنة الهشة منذ 2022، عبر معركة كبرى في الداخل اليمني او باستهداف مصالحها الحيوية في العمق السعودي واستدراجها الى رد عسكري مباشر ، و قد يساعد ذلك طهران في تسميم الأجواء السياسية و منح معارضي ترامب ذريعة مثالية لتخريب للحد من التزامات أي شراكة دفاعية مع دولة متورطة بحرب أهلية.


حدود التصعيد الحوثي..


صحيح ان حسابات الحوثي الذاتية تنسجم مع نهجه التصعيدي تجاه السعودية ، لكن معايرة هذا التصعيد (سياسيا او عسكريا) سيكون متصل بحسابات ايران الإقليمية. وقد بدا لافتا كيف تزامن الحراك الديبلوماسي في مسقط بين الحوثيين و السعودية ، مع حراك ديبلوماسي في طهران قاده وزير الداخلية العماني حيث التقى مع رئيس الجمهورية مسعود بزشكيان ، ووجه دعوة خاصة الى امين المجلس الأعلى للأمن القومي علي لارجاني لزيارة مسقط.


حتى الان تبدو السياسة الإيرانية اقرب الى التلويح بالتصعيد دون التورط باستخدام القوة ، وهي بذلك تسعى الى تذكير الجميع بأهمية اخذ مصالحها في الحسبان لاسيما الأمير سلمان اثناء زيارته المفصلية الى واشنطن على امل ان تنجح القيادة السعودية في دفع ترامب الى استئناف مسار التفاوض النووي بشروط اكثر مرونة.

و في الوقت نفسه تدخر ايران ورقة البحر الأحمر بانتظار ما سوف تسفر عنه عروض الوساطة بين طهران و واشنطن ، وتحسبا لأي جولة مواجهة عسكرية محتملة مع إسرائيل.


و في جهة ثالثة تستثمر ايران تصعيد الحوثيين السياسي كي تلعب دور الشرطي الطيب الذي يؤكد انفتاحه الدائم على وجود تسوية وانه سوف يعمل على اقناع حليفه المحلي المتشدد بذلك . وعلى المستوى التكتيكي تسعى ايران الى مقايضة التهدئة في اليمن بوقف التصعيد في العراق ، الذي ترى التقديرات الإيرانية بانها الساحة المحتملة لأي ضربة إسرائيلية قادمة.

وفي ضوء هذه المعادلة يلتزم الحوثيون مؤقتا بوقف التصعيد العابر للحدود ، ويركزون على تحريك المسارات التفاوضية لتحقيق هدفين تكتيكيين: كسر العزلة السياسية الدولية ولهذا وجهوا دعوة رسمية الى المبعوث الاممي في اليمن والى سفراء الدول الغربية لزيارتهم في صنعاء ، اما الهدف الثاني فتخفيف حدة الضغوط الاقتصادية وان بصورة محدودة و تدريجية.


وعلى الأرجح يتفهم الحوثيون استعصاء العودة المباشرة الى خارطة الطريق، لكنهم سيواصلون العمل على تزخييم هذا المسار من خلال ثلاثة أوراق : مرونة ديبلوماسية مع المجتمع الدولي بما في ذلك قبول مناقشة ملف المعتقلين وتأكيد الالتزام بعدم تهديد الملاحة ، وثانيا التلويح بعودة التصعيد في الحدود مع السعودية ، وثالثا و الأهم إمكانية القيام بعمليات عسكرية او امنية في الداخل لإرباك معسكر الشرعية و الضغط على التحالف العربي و المجتمع الدولي.