(إذا أخطأ الإنسان العادي أضرّ نفسه،
أما إذا أخطأ القائد السياسي فيضر شعبه) – ق.م
من يتأمل مسار التاريخ البشري، وخصوصاً تاريخه العسكري، من حصان طروادة إلى حرب الخليج، يدرك أن الصدفة والغباء لم يكونا على هامش الأحداث، بل في كثير من الأحيان في مركزها الحاسم. فليس العقل وحده هو من يصوغ التاريخ، بل إن اللاعقل، بنزواته وأخطائه، كثيراً ما كان هو المهندس الخفي لمسار البشرية.في كتابه «دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ» يكشف إريك دورتشميد عن مفارقة التاريخ الكبرى: أن الحروب والمعارك التي صنعت خرائط العالم لم تُحسم دائماً بالبطولة أو التخطيط أو الشجاعة، بل بالخطأ، وبنوبات الغباء البشري، وبنزوات الطبيعة التي تعصف بالموازين وتبدّل المصائر. يبرهن المؤلف، عبر سلسلة من الوقائع الممتدة من ميادين القرون الوسطى إلى هيروشيما ونجازاكي، أن التاريخ كثيراً ما كتبته الصدفة، وأن الغباء البشري كان القلم الذي خطّ فصوله المأساوية. ومن بين تلك الأمثلة، قصة القصف النووي لهيروشيما، التي كانت في الأصل هدفاً بديلاً، لا أكثر. فالطائرة الأميركية التي ألقت القنبلة كانت تحمل قائمة بأربعة أهداف، ولكن الغيوم، تلك النزوة الجوية العابرة، غيّرت القرار في اللحظة الأخيرة، لتُكتب مدينة كاملة في سجل الفناء. لم يكن العقل من اختار الضحية، بل الصدفة – وكأن القدر نفسه خضع لخطأ في حسابات الطقس أما الغباء، فله سجل آخر، لا يقلّ فداحة عن الصدفة. فحين يتخذ القائد العسكري أو السياسي قراراً أحمق، فإن نتائجه لا تُقاس بالخسارة المادية، بل بالدماء والخراب وامّحاء مدنٍ من الوجود. الغباء هنا ليس مجرد ضعف في التفكير، بل قوة فاعلة في التاريخ، تصنع الكوارث باسم المجد، وتعيد رسم مصائر الشعوب باسم البطولة الزائفة. وما أكثر القادة الذين حركهم الغرور الشخصي لا الوعي التاريخي، فكانت أمم بأكملها وقوداً لحماقاتهم.
لقد أصاب دورتشميد حين قال إن الخطأ في المصنع يؤدي إلى انهياره، والخطأ في البورصة إلى خسارة المال، أما الخطأ في القرار السياسي أو العسكري فيقاس بجثث البشر وبخرائط الألم.
حين كنت في القاهرة قرأت هذا الكتاب بشغف الناقد لا القارئ، وخرجت منه بسؤال مرير:
هل كانت شعوبنا العربية – في ماضيها وحاضرها – ضحية الصدفة، أم ضحية الغباء؟
ربما الاثنان معاً، غير أن نصيبنا من الغباء كان أوفر، لأننا غالباً ما حوّلناه إلى قدرٍ مقدّس لا يُسأل ولا يُراجع.
في كتابه الجمهورية/ عمدة مراجع الفلسفة السياسية- يشترط أفلاطون على من يريد أن يكون سياسيا إن يخضع لعملية تربية وتعليمية وتنمية وتأهيل لمدة خمسن عاما فيما سماه الملك الفيلسوف. داعك من أفلاطون ومعاييره العسيرة وتعالى نشوف مصادر السلطة عند عالم الاجتماع السياسي الشهير؛ ماكس فيبر الذي حددها بثلاثة مصادر أساسية هي: مصدر السلطة التقليدية بحكم الغلبة والقوة؛ قوة السيف والساعد( قوة القبيلة أو الجماعة) أو بالاعتقاد الديني أو بالوراثة البيولوجية وقانونية عبر الديمقراطية ومؤسساتها العامة المعروفة ( أحزاب وقوى وبرامج ومنافسات وشعارات وانتخابات ومجالس نيابية .الخ) أو كاريزمية وهي السلطة التي يقودها شخص غير عادي “خارق” يملك صفات وكارزمية مثل حقيقية أو وهمية مثل الرسل والأنبياء الذين تمكنوا من جعل الناس ينصتون إليهم ويؤمنون بما يقولونه لهم. وحينما نلاحظة معظم من صعدوا إلى هرم السلطة في الجمهوريات العربية لم يأتوا عبر هذه المسالك المعروفة بل صعدوا باسم الشعب والجماهير الشعبية معظمهم من صادم إلى الاسد وما بينهما مثل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح أو الرئيس الليبي معمر القذافي الذي أسسا وهما في السلطة أحزاب باسم الشعب أو الجمهور ( المؤتمر الشعبي العام) أو حزب الجماهيرية العربية العظمى وهناك نماذج كثيرة استخدمت الشعب والجماهير العريضة ولازالت تستخدمها لغرض الصعود إلى السلطة وأول ما تتمكن من تسحق الشعب وتذيقه ما لم يخطر على باله من التنكيل والعذاب. السياسة ؛ فارماكون Pharmakon ) حسب أفلاطون بمعنى ( السم والترياق ) فإذا خربت خرب كل شيء في هذا العالم وإذا صلحت صلح كل شيء في هذه الدنيا ، وليس هناك شيء آخر يؤثر في حياة الناس بإشد مما تفعله السياسة؛ حتى الكوارث الطبيعية وتقلبات المناخ؛ ك البراكين والزلازل والفيضانات والعواصف والجفاف والجدب والخصب والبرد والحر والأوبئة والجوائح ةة هي أخف وطئة على حياة الناس في كل المجتمعات من أثر الشرور السياسة ومداراتها الفاجعة. فما حدث في فلسطين وسوريا وليبيا والعراق واليمن والصومال وافغانستان منذ أكثر من سبعة عقود من الزمن ولازال يتنضد الآن أمام الأبصار من عذابات وجرائم يشيب لهولها الولدان وما أنجبته من أزمات وتصدعات سياسية وحروب وخرابات في السنوات الماضية لا يمكن مقارنة أثرة الفاجع في حياة المجتمعات مع ما يمكن أن تفعله أي كوارث طبيعية واقعية أو محتملة. وهكذا صار العرب اليوم دولا وشعوبا وافرادا في مهب العواصف السياسية الجائحة! والسياسة هي الزمن الذي لا يمر ! بمعنى إنها دائمة الحضور والفعل والتأثير في حياة الناس في كل مكان وزمان ، فأما أن يتمكن الناس من ترويضها والسيطرة عليها وتقنينها وتقعيدها في نظم مؤسسية دستورية عادلة ومستقرة وأما أن تسحقهم بعنفها ووحشيتها التي لا حدود لها. وبهذا نفهم قول دوبرية في كتابه المهم (نقد العقل السياسي) : “الساسة في كل الأزمان جعلت الناس مجانيين أو متوحشين أو بكلمة فاقدي العقل” ) إنها هي فحوى التاريخ الذي يكسر رؤوس البشر ولم يتكسر رأسها أبدا! فمتى يدرك العرب أهمية وضرورة تقعيد السياسة في مجالها الخاص على أسس مؤسسية قانونية عادلة ومستقرة، ويشيدون بيتهم السياسي الخاص مثل سائر شعوب العالم المستقرة في دولها المزدهرة اليوم ؟ومتى يدركون ويفهم الأسباب العميق لمأساتهم الفاجعة، ويقبضون على مفتاح السر في كونهم كذلك منذ أقدم العصور في حروب دائمة ومستمرة بدلا من الأوهام الزائفة التي لازالوا يستجرونها من ماضيهم السحيق عن ذاتهم وعن الآخرين، وحينما نتقبل أنفسنا كما نحن في الواقع لا كما نتوهم حينئذ فقط يمكن لنا أن نتقدم. ولا قيمة ولا أهمية للشعوب والمجتمعات بدون دول ومؤسسات مهما كانوا عليه من دين وأخلاق. واليّ مش مصدق يقرأ هذا الكتاب ؛ نقد العقل السياسي ل روجيس دوبرية . ولا أعتقد أن أحد من السياسين العرب قد سمعه به أو بكتاب الامير لميكافللي والنتائج هي الشاهد والدليل . ولطالما وقد حيرتني تلك الزعامات ( السياسية) التي تمكنت من الوصول إلى هرم (السلطة السياسية) في غير دولة عربية واليمن أصلها؛ زعامات صعدت من قاع المجتمع وهوامشه دون إن تمتلك إي ميزة أو مؤهل أو قدرة ذاتية تبرر استحقاقها للقيادة السياسية وهي أخطر أنماط القيادات وأكثرها حساسية ومسؤولية.