لم يعد من المقبول، بعدما تعرضت له اليمن أرضًا وإنسانًا، القبول بالزيدية كمذهب ديني يمكن التعايش معه.
لم يكن موقفنا من الزيدية موقفًا يمكن اعتباره في خانة الصراع المذهبي الذي يسعى البعض إلى الحديث عنه أو الترويج لخطورته، محتجين بفترات من التعايش السلمي بين اتباع المذاهب الدينية في اليمن.
يذهب البعض إلى القول بأن المذهب الزيدي أقرب المذاهب الشيعية إلى السنة، وكانت هذه هي الأكذوبة التي منحت المذهب الزيدي إمكانية العيش والبقاء بيننا لقرون طويلة، يتم من خلالها فصل الموجه العقائدي للزيدية الذي تلتزم بالحفاظ عليه المرجعيات الفكرية والدينية الزيدية، ويتم من خلالها توجيه الأتباع بمغالطات لا تظهر للعامة قبح الزيدية ومخاطر دعوتها وبرامج بقائها القائمة على التمييز والعنصرية والفرز الطبقي، الذي يسخر الكل ليكون محور ارتكاز هذه الدعوة وإسنادها.
لقد نجح كهنة الزيدية عقب ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962م في المحافظة على بقاء الزيدية كمذهب تحتشد حوله وتؤيده أكبر مراكز القوة في الدولة، وتتبنى خطابه، وتعتمد أحكام كهنته وفتاويهم، وتصوير الثورة بأنها كانت ضد حكم بيت حميد الدين، وليس كثورة ضد نظام ديني وسياسي عنصري كهنوتي زيدي استهدف اليمن قرونًا طويلة.
عند بيت حميد الدين تم اختزال الزيدية لكل الموبقات والجرائم الكهنوتية التي عانت منها اليمن، مما يتيح للطامحين من أبناء الأسر الهاشمية الأخرى الحق بالدعوة لإمامتها التي تراها عادلة وواجبة وفق عقيدة المذهب الزيدي، التي تحتكر حق الحكم في بعض الأسر الهاشمية وفق شرط البطنين.
لم تكن الزيدية مذهبًا دينيًا يبحث في الأحكام والتشريعات الفقهية كما يجري الترويج له، فهي ليست مذهبًا فقهيًا ولم تكن كذلك؛ كانت الزيدية، ولا تزال، برنامجًا سياسيًا صاغه وكتب قواعده ونظم قواه مجموعة من الطامعين في الحكم ممن ينتسبون للأسر الهاشمية، التي وجدت فيه وسيلة تمكنها من الحكم، ووضعت من خلاله اشتراطات الإمامة وموقف كهنتها من المخالفين لهم، لتفتتح بذلك أطول حرب في التاريخ تشهدها الحضارة الإنسانية، وهي حرب اليمنيين ضد الكهنوت الزيدي الإمامي، التي ما زالت مستمرة منذ أكثر من ألف ومائتي عام وحتى هذه اللحظة.
لقد نجحت الزيدية بالحفاظ على نفسها كفكرة قائمة قابلة للحياة والتجديد، يمكن من خلالها استعادة مكانها في الحكم كلما سقطت سلطتهم، فنجدها، رغم الغياب، ومن خلف منازل التواري وكهوف الانعزال وقرى الجهل، تعيد إنتاج نفسها وتفرض حضورها كقوة حية حاكمة متى ما سمحت لها الظروف.
ومن هذا المنطلق نشهد بعد قيام ثورة سبتمبر ظهور ما يمكن تسميته أو وصفه بـ"الجمهوري الزيدي".
الجمهوري الزيدي نجده كابن من أبناء السلالة الهاشمية يعلن تأييده للثورة ويتقلد أعلى المناصب فيها.
الجمهوري الزيدي الهاشمي وجدناه يتولى القضاء والمحاكم ولجان وهيئات الإفتاء والأوقاف.
الجمهوري الزيدي الهاشمي يمثل المحافظات والإدارات المحلية.
الجمهوري الزيدي نجده يملأ الفراغ التوجيهي والخطابي والدعوي في المساجد والمدارس والجامعات والصحافة والإذاعة والتلفزيون وغيرها.
الجمهوري الزيدي يتولى تخطيط مناهج التعليم والتوجيه والخطاب الرسمي للدولة، وممسكًا أمانة الأحزاب وضمن قيادتها الفاعلة.
نجد الجمهوري الزيدي شيخ قبيلة كان جده وأباه وأخوه قبل الثورة رهينة لدى نظام الإمامة الكهنوتي الزيدي أو مقتولًا لأنه لم يمتثل لأمر الإمام.
كنا ولا نزال نشاهد اليوم المزيد والمزيد من الجمهوريين الزيود، حتى بعد انقلاب الحوثيين، الذي يعتبر امتدادًا لنضال الزيدية الطويل في استعادة الحكم لأهله.
إلى من يتفاخرون اليوم بانتمائهم الزيدي للزيدية كمذهب، أقول لهم:
لا يمكن القول بالجمع بين الجمهورية والزيدية، لأن كلا منهما يناقض الآخر، فإما أن تكون جمهوريًا أو إماميًا؛ ليس ثمّة توافقات ولا اجتهادات ترقيعية، لا من قبل الجمهورية ولا من قبل الزيدية.
الزيدية واضحة وصريحة في نظريتها كعقيدة حكم سلالي، تشرع لكل طامح هاشمي زيدي، وتهيئ له من التشريعات ما يمكنه من فرض نفسه كحاكم أعلى، وسلطة تشريعية وتنفيذية مخوَّلة للتصرف بأحوال الشعب والدولة وفق نظريتها القائمة على التمييز والتفضيل السلالي.
أما الجمهورية، فهي نظام يتساوى فيه جميع أفراد المجتمع، بلا تمييز ولا تبعية ولا سلطة دينية أو شعبية إلا سلطة الدولة، بما تملك من تشريعات وقوانين ومبادئ تضمن الحرية والعدالة الاجتماعية.
وشتان بين أن تكون جمهوريًا يمنيًا وبين أن تكون "جمهوريًا زيديًا"، كما تصف وترى نفسك.
قد يرى الجمهوري الزيدي، المواطن الذي يفاخر بزيديته، إمكانية الدمج بين كونه جمهوريًا وكونه زيديًا في الوقت نفسه.
ربما تظهر له الأمور بسيطة، وبهذه السذاجة التي لا تتنبه إلى الأخطار الزيدية على الجمهورية، نراه يسعى لأن يكون حاملًا لهويتين متناقضتين لا تتفقان، لا من حيث الأساس ولا المبدأ.
لقد تم التغرير على اليمنيين من قبل الزيدية، على أن الزيدية مذهب ديني ينتمي لمنظومة المذاهب الإسلامية، واقتصر الترويج لها لدى الأتباع العاديين أي الجماهير الشعبية عقب الثورة، بأن الزيدية ببساطة إرث إسلامي فقهي يتبع فقه وآراء أئمة أهل البيت النبوي.
وسوقوا لهم بأن الزيدية طقوس ذكر وصلاة وأنشاد وموالد وتسبيح، تشدوا به أصوات المآذن قبل صلاة الجمعة والفجر، وفي مجالس الأفراح والأعراس والولادات، فالزيدية زفة وتسبيح وأنشاد وصلاة على محمد وآله، وأن الزيدية قصص وحكاوي وحزاوي وأولياء وصالحين وعلينا كيمَنيين، من باب العرف وإيفاء الناس منازلهم، أن نمنح للمنتسبين للبيت النبوي، ولما لهم من الفضل المخصوص، الذي نقدمه على أنفسنا وأهلنا.
بهذا الاحتيال الزيدي الممنهج، الذي يهدف إلى الحفاظ على الزيدية وبقاء الإمامة كفكرة لا تموت، تمكن الهاشميون في اليمن من الحفاظ على قواعد دعمهم وإسنادهم الشعبي، كمقدمة لظهور إمام زيدي هاشمي علوي من أبناء البطنينين، سيأتي وقته ويعلن حكمه متى ما تهيأت الظروف، وهذا ما حصل بالفعل.
إن المشكلة القائمة التي واجهتها الجمهورية تكمن في دخول بعض العناصر السلالية إلى مراكز القرار تحت حجة التوافق والتصالح. لقد أعادت الإمامة تموضعها داخل الدولة بعد أن أُزيح رجال الثورة وأبرز عساكرها من المشهد السياسي اليمني، لتمهد طبقة القضاة، الطبقة الثانية في السلم الاجتماعي اليمني، وهي الطبقة التي تلي ما يسمون بـ"السادة"، لعودة الإمامة، وفتحت باب الدولة لعودة العناصر الإمامية لتشارك في إدارة الدولة تحت مسمى "جمهوري زيدي".
لقد شق الإماميون، تحت لافتة "جمهوري زيدي"، وحدة الدولة وقرارها، فبدلاً من أن تقوم الدولة باحتضان الإماميين واستيعابهم، وفرض الثورة والجمهورية كأمر واقع وعقيدة وطنية لا تقبل التغيير، وإزالة الفوارق بين الطبقات، ومحاربة أشكال التميز السلالي والعنصري، وسن قوانين تحرم التمييز الطبقي والفكر المذهبي، قام الهاشميون، أي الإماميون أو من يعرفون عن أنفسهم بالجمهوريين الزيود، باحتضان الدولة وإعادة توجيه مواقفها وخططها وسياستها وإعلامها ومنابرها لصالح بقاء الزيدية والإمامة كفكرة باقية وخالدة، تحظى بالتقديس والتبجيل والاحترام والقبول الشعبي والرسمي، وهذا كله مهّد لعودة الإمامة بنسختها الكهنوتية الحوثية.
إن من أسقط الجمهورية ونظامها هو النظام الزيدي الذي حكم اليمن بعد الثورة. من أسقط صنعاء هم الزيود الجمهوريون المتواجدون في رئاسة الدولة وأذرعها السياسية والأمنية والعسكرية، وأنظمتنا الحزبية اسقطها الجمهوري الزيدي، من أمثال: عبدالملك المتوكل، ويحيى الشامي، وأحمد الكحلاني، وزيد الشامي، وعبدالرحمن العماد، وعبدالملك المتوكل واحمد شرف الدين وغيرهم.
لقد سرقوا منا هوية الوطن، وهوية الدولة، وهوية الثورة، وهوية الشعب، وهوية الأمة، بل وهوية الإسلام، وادعوا أن الزيدية مذهب وفقه ودين ودولة. لقد أوجدوا الجمهوري الزيدي في كل حي، وفي كل مكتب، وفي كل إدارة، وفي كل مؤسسة، وتحول المهدد الإمامي من عدو للشعب إلى تراث وفن، وصنعه، ومجالس، وعادات وتقاليد، ومناظر، وتسابيح، وأناشيد، سلبت من خلالها الهاشمية السياسية وعينا بذاتنا، وجعلتنا، بوعي أو بدون وعي، خدامًا للإمامة، خدامًا لبيت حميد الدين، والمتوكل، والحوثي، والمداني، والكبسي، والعماد، والشامي، والشريف، والشرفي، والأهل، والعيدروس، والبيض، والأبيض، والعياني، والسقاف، والهبج، والديلمي، وعشرات وعشرات من الأسر التي تعتقد تميزها وأفضليتها على خلق الله ومن خلق.
لم ينتزع من السنة اليمنيين، ولو قصّروا، عقب ثورة سبتمبر لفظ "السيد"، لقد حافظ الهاشميون الزيود الجمهوريون على لفظ التميز الذي ردده همج الجمهوريون الزيود من غير بني هاشم، فاستمر التمييز، واستمرت العنصرية بيننا كعادة، ومارسناها كسلوك مجتمعي اعتيادي، أهلاً بالسيد أحمد فلان، هذا مناسب للسيد محمد، فوق عيني وراسي ياسيدي حتى إعلانات الوفاة من مآذن مساجد صنعاء وذمار ويريم وغيرها كانت تعلن باسم المتوفي الذي تُنعت به بـ"السيد" أو "الشريفة"،المنتقله إلى رحمة الله تعالى.
لم نكن يومًا جمهورين مكتملين الانتماء للجمهورية والثورة، لقد اخترقنا السلاليون الجمهوريون الزيود من كل مكان، فتحوا تحت لافتة المصاهرات بين بعض الأسر الهاشمية وبعض المشايخ الكبار في مناطق طوق صنعاء، دكاكين ومستودعات لتخزين بنية مجتمعية تقر بالتميز. فمن عدالة الجمهورية الزيدية أن بيت المتوكل أو حميد الدين أو غيرهم ناسبوا بيت الشيخ الفلاني، حتى مصاهرتهم لكبار مشايخ اليمن ورؤساء الجمهورية، كانت تبدو وكأنها تشريف لبيت هذا الشيخ وهذا الرئيس وذاك، لأن هذه الأسرة الهاشمية تفضلت عليه بتزويجه من إحدى بناتها.
لقد كانت الإمامة تعيد ترتيب نفسها بين صفوفنا الجمهورية، ونحن نساعد على تفرقنا، والعجيب أننا نجدهم اليوم بيننا دون خجل من انتمائهم للمذهب الذي قتل اليمنيين وهجرهم وأسقط دولتهم.