حين تولى علي عبدالله صالح قيادة اليمن، كان شخصًا نحيلًا، بسيطًا، يشبه اليمنيين في مختلف النواحي اليمنية، رجلًا يحمل غبار القرى، وتجاعيد الحياة، ولهجة المواطنين في كل شيء، اسمًا عاديًا كبقية الجنود، ووجهًا فقيرًا من عامة المعلقين، كان العوام يألفونه حين يشاهدونه، ليس لشيء، إنما لأنه لا يختلف عنهم في كل التفاصيل، مع صفاتهم وطبيعتهم وبساطتهم، كانه الذي يأكل معهم من ذات الصحن، ويضحك من نكاتهم وتقلباتهم، يضحك بلكنتهم، ويقاتل ببندقيتهم، وفي قلبه ارتباك اليمني المسؤول عن دولة يتنازعها الخوف من كل جانب.
في ذلك الصباح، حين اعتلى صالح المنصة، مقابلًا لكبار رجال الدولة، وأعضاء مجلس الشعب التأسيسي، كان بعضهم يشاهدونه بنظرات الاستغراب، وفي أنفسهم ضحكة مكتومة، وآخرون يتأملونه بقناعة غريبة، كأنهم جميعًا يُلقونه لمصيره الأخير، ويجزمون بأنه ذاهب لنهايته المحتومة، كانوا يظنون أنفسهم أذكى منه حين رفضوا مغامرة الرئاسة، كانوا يدركون بالفعل بأن السابقون لم يصمد منهم أحد، مع أنهم أقوى منه وأكثر حضورًا وتأثيرًا، وهذا الرجل النحيل ماذا سيفعل؟ لن يقوى على البقاء أكثر منهم!
في مثل هذا اليوم، الـ17 من يوليو 78، تحدث القاضي عبدالكريم العرشي، رئيس مجلس الشعب التأسيسي، عن إجماع مجلس الشعب على إسناد مهام رئيس الجمهورية إلى الأخ المقدم #علي_عبدالله_صالح وبعد تصفيق حار، طلب من فخامته التقدم لتأدية القسم الدستوري. يومها بدأ صالح قسمه بقراءة الفاتحة إلى أرواح الشـ ـ ـهداء، ثم أقسم لليمنيين على الحفاظ على مبادئ ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وعلى كل مكاسب شعبنا اليمني وجمهوريته الخالدة.
كان صالح آنذاك يغامر بحياته ورأسه، بتوقيت لم يقبل فيه الآخرون المجازفة، لكنه بعد خمس سنوات، مع قرب انتهاء فترته الدستورية الأولى، أعاد القرار إلى مجلس الشعب التأسيسي برئاسة القاضي العرشي، ليجدد له المجلس مهام الرئاسة لفترة جديدة، بعد انتخابات دستورية كاملة. يومها قال عنه العرشي: هذا شموخ الواثق بنفسه، شموخ اليمني المتجاوز لأصعب فتراتنا التاريخية، في تواضع الواثق أيضًا، أعلن فخامة الرئيس علي عبدالله صالح إذعانه للدستور، والتزامه به. واليوم، واستجابة لطلب الشعب الذي أولاكم ثقته في الفترة الماضية، الثقة التي جددها لكم مرة أخرى عبر انتخابات ديمقراطية، هذا الشعب يختار صالح مجددًا رئيسًا جمهوريًا وقائدًا عامًا للقوات المسلحة.
علي عبدالله صالح، منذ أول أيامه وحتى رحيله، لم يكن مجرد رئيس عابر، لقد كان ظاهرة يمنية يصعب تكرارها مجددًا، عن رجل من عامة الشعب، رئيس أعلى من قاع الوطن، مع ثلاثة عقود صنع خلالها حكاية اليمن التاريخية، اليمن الجمهوري الممتماسك كدولة كاملة. رئيس من عامة الشعب، لا من زوايا السماء، من قاع الوطن، لا من تاريخ الأنبياء، صانعًا في حياته أعظم ما يمكن للإنسان تخليده وإنجازه، بشجاعة، وذكاء، وتراقص، وتكامل، وطموحات لا يمكن تكرارها. سلامٌ عليه ورحمة الله وبركاته.
من ناحية مهمة، في ذروة رئاسته، وفترات تمكنه وقوته، كان يهتم جدًا بالصحافة والصحفيين، على نحو ملفت، كان شغوفًا بمطالعة الصحف ومستجدات الكُتاب، لم يكن يفوت صحيفة واحدة، بل يقرأها كلها، صحفًا موالية ومعارضة، يقرأ لجميع الصحف والصحفيين، وفي أوقات غير متوقعة يتواصل بالصحفين وكتاب الأعمدة اليومية، يتحدث إليهم ليخبرهم عن إعجابه بهم. أو ليناقشهم في ما يكتبون، كان معهم كريمًا متواضعًا، جميع الصحفيين منذ عام 2000 وحتى 2011 تعرفوا عليه، وتحدثوا معه، وسمعوا صوته، كان يفاجئهم باتصالاته وصوته وإضافاته، كان يساعدهم ويطمئن عليهم. محبوه ومعارضوه، جميعهم جميعهم، كان يهديهم سيارات، منازل، تذاكر سفر، كفالات علاج. كان مهتمًا من خلالهم بتعزيز الوعي اليمني والوطني والجمهوري، لكنهم جميعًا، وفي لحظة واحدة فقط، خانوه، وتخلّوا عنه، وتركوه، وتبرؤوا منه، وأغرتهم أمنيات الربيع الوهمي.
بعدها تغيّر كل شيء خلال فترة وجيزة، وتعاقبت السنوات تلو السنوات، ليصبح وحيدًا برأسه، شامخًا بوطنه، هكذا حتى قاتل ومات، بعدها ماذا حدث، جميعكم تعرفون، تغيرت المعطبات، ووجد الصحفيون أنفسهم كالمشردين في مختلف البقاع، حينها بدأوا يتذكرون الرجل وسنواتهم معهم، يتذكرون خيانتهم وغدرهم وقلة أخلاقهم، لتعود عليهم خيالاته كالغصص المزمنة، تذكّروه وندموا على كل شيء، وصمتوا قليلًا وكثيرًا، حى أدركوا المستجدات، فعادوا يكتبون عنه، كأنهم الأبطال العائدون. عادوا مجددًا يكتبون بحرقة الدم وزيف المداد، ليقولوا لمن عادت صوبهم كفّة التمكن الفعلي: نحن هنا، نحن هنا، نحن هنا، لا تتركوننا في بؤس الزمان، وهذا رئيسنا العظيم، صالح اليماني الحميري العنيد، كان أعظم الرؤساء... بالفعل، هو أعظمهم وآخرهم، لكنكم بالمقابل أعظم الكاذبين. آلا ليتنا، حضرنا في زمنه وزمنكم، لم نكن سنبيع الوفاء بالزيف، كنا سنقرع رؤوسكم أيها الأنذال. سلامً على صالح، ورحمة الله وبركاته.
ماجد زايد