آخر ما بقي من تعز، يَفلتُ منا.. المدينة النابضة بالماء والدم، تتحول إلى أفعى، ترقد ميتة تحت شمس لا ترحم.
المدينة الشابة المتوقدة بالحياة، شاخت سريعا، في غفلة الهُدن المزيفة ...!!
"كبئر مهجور" تتشقق وكجلد عجوز تُنسى، وكذاكرة مشوهة تصبح متحفاً لجفاف من نوع آخر، تتحدث شقوقه بلغة الأشباح.
كل صدع في المدينة، بدأ برصاصة حوثية، قبل أن يُنبش أثر الرصاص بأظافر عدوانية.. تبدو اليوم كما لو أنها صُنّعت من شظايا الرصاصة الأولى!!
أن تهجرها المياه فجأة، هي التي تألهت على عروش الماء.. بمآلات الطبيعة قد لا يبدو الأمر غريبا! غير أن الأكثر غرابة أن يصبح الجفاف حيلة وسلاح لمهاجمة من أتى مسرعا لإنقاذها بشربة ماء ....
من الأعماق تئن تعز، فيما تطفو على السطح كائنات هلامية جديدة خُلقت على عجل، مهمتها نشر ما يُكتب لها، أفواه بألسن مستعارة تنبح وتهرج بما تُلقّن، وجوه غريبة لم تعرفها تعز في عز عطشها للخلاص الوطني.
كائنات سوسية، تتحدث بلغة الجفاف، لتنخر بلا كلل في آخر أعمدة الشرعية، عمود بقي قائماً وسط الهلاك المُحاك بإتقان...
ما الذي يجري؟!
نستفيق فجأة على أزمةٍ تشكّلت من جحيم موّه ليبدو حقيقيا... بينما الجميع مكبّل، والجميع يشاهد، في إنتظار نهاية المسرحية بإخراجها الرديء، إذ سرعان ما يستفيق الناس مجددا على حلول سحرية قادمة من مناطق سيطرة المليشيات!!
مَن أول من تحرك عمليًا لمعالجة أزمة المياه، قبل أن تنتفخ الأزمة إلى كارثة؟
العميد طارق!
ومن أول من صُودر خياره العملي، الإنساني، الوطني لإنقاذ المدينة من سيناريو العطش؟ عبر هجوم يبدو غير مبرر، لكنه مدروس؟
أيضًا طارق!
تُغلق محابس المياه، وفجأة ينهمر الهجوم على طارق صالح.
هذا التزامن ليس عبثا... أن تُفتعل الأزمة، ثم يُهاجم صاحب الحل، ثم يُقدَّم الحوثي كمنقذ، فهذه ليست أزمة مياه… هذه مقدمة لتصفية ما تبقى من تعز.. كفكرة، كجبهة، كشرعية.
تبدو تعز اليوم وكأنها عهدة لدى جهة -سلطة- ما، تتهيّأ لتسليمها... كما لو أنها استسلمت لفشل مفروض!!
حتى الهجوم على رموز السلطة المحلية، وإن كانوا يستحقون النقد، في ظرف صائب، لكنه جاء بأساليب خاطئة!!
ألا يبدو أننا أمام حملة ممنهجة لتمهيد الأرض والمجتمع التعزي لتنازل قادم؟!.. لإذلال مسبق يسبق اتفاقا ما، اتفاق لم تكن لتعز أن تقبله لو كانت بكامل وعيها وثباتها؟!
احاول أن اصغي جيدا لما يحدث- في زحمة الإرباك- يأتيني صوت هامس، إنه ما بقي من صلاة أخيرة رفضها الله ربما لأنها أتته مسمومة ومسومة.
أحاول أن أستوعب ما يحدث، رغم أنه واضح جدًا... لكنه من الوضوح الذي يأتي مشرشفا بالعمى.
سيناريوهات مخيفة لا أريد حتى أن أتخيلها.
وأكثرها سوءًا... أن يكون هذا العطش، وهذه الفوضى، وهذا التشكيك، مجرد ممر لتسليم تعز- للمليشيات؟ ربما... وربما لتشكيلات جديدة!
أيا كانت الاحتمالات، المؤكد الوحيد هو أن المدينة على أعتاب أمر واقع جديد، سيُفرض قريبا..!!