آخر تحديث :السبت-05 يوليو 2025-12:22ص

مخارج الطوارئ..."الموضوعية، والدراسة المنهجية، والتثاقف"!

الجمعة - 04 يوليو 2025 - الساعة 06:00 م

همدان الصبري
بقلم: همدان الصبري
- ارشيف الكاتب


كثيرًا ما يتحفنا الأكاديميين ممن ذيل قبل أسماؤهم بـ (د.، أ.د) بربطات أعناقهم، ويدهشونا بملامح هندامهم، ويذهلونا بأساليب تنميق تعابيرهم وطرق تعقيد مفاهيمهم؛ ولكنهم يصدمونا بأطروحاتهم الغير متسقة عما حدث ويحدث في الساحة الوطنية، ويفاجئونا بتفسير نتائج اكتشافاتهم للعوامل والأسباب المرتبطة بما وصل إليه الوطن أرضا وإنسانا!. وكلما عرض أولئك الأكاديميين تفسيراتهم غير المنطقية أو توضيحاتهم الخارجة عن سياقات الوضع الماثل للعيان أو تأويلاتهم المتناقضة مع النتائج الملموسة في الواقع، كلما أبدعوا بالخروج من تلك المآزق باستخدام مخارج الطوارئ المُعتادة، المتمثلة تارة بكلمة "الموضوعية"، وتارة أخرى بـ "الدراسة المنهجية"، وأحيانًا بتعبير "التثاقف"!.


من يتشدق بـ"الموضوعية" عند القيام بالدراسات الإنسانية أو طرح المرئيات الفكرية فهو مجانب للصواب، وذلك كون "الموضوعية" لا تكون إلا في دراسة العلوم العلمية المرتبطة بالتعامل مع المادة ذات الخصائص الثابتة، أما الدراسات الإنسانية فإنها أقرب إلى "الذاتية أو التحيز"، بل أن التحيز حتميًا فيها؛ وذلك كون التحيز صفة لصيقة بالإنسان (بما في ذلك الباحث)، ومرتبطة بنشأته وبنية عقله وخلفيته وأيدلوجيته، والإنسان بطبيعة الحال ليس آلة صماء، بل كتلة معقدة ومتغيرة وذو أبعاد متعددة ملموسة وغير ملموسة، والشيء نفسه بالنسبة لعينة دراسة تقويم الظواهر سواءً كانت جماعة أو مجتمع أو أفراد. كما أن الحديث عن الالتزام بـ"الموضوعية" يعني أن يتجرد الباحث من كافة خصوصيته وعواطفه وحواسه وخلفيته الاجتماعية والدراسية، ويحول عقله إلى صفحة بيضاء تسجل الحقائق وترصد التفاصيل بحياد شديد، ويحول كذلك مجتمع الدراسة إلى صفحة بيضاء ذات خصائص ثابتة، وهذا مُستحيل!. وبالتالي، بديهيًا عندما تجد نتائج إي دراسة إنسانية أو مؤلفات فكرية تخلص إلى خلق أعذار وتبريرات لدعم الكهنوتية السلالية وقفازاتها القذرة، فذلك يدل مباشرة على أن عواطف وحواس "الباحث" ونشأته وخلفيته الاجتماعية متحيزة للكهنوتية السلالية وقفازاتها القذرة، والعكس صحيح!.


أما "الدراسة البحثية المنهجية" فأنها عبارة عن مجموعة الخطوات التي يتبعها الباحث بهدف الإجابة على سؤال بحثي أو اختبار فرضية. كما أن "الفرضية" مؤقتة وقابلة للاختبار وقد تكون صحيحة أو خاطئة ويمكن قبولها أو رفضها بناءً على نتائج الاختبار؛ بينما "المُسلّمات" حقيقة مقبولة، ومصدرها مستمد من تجارب مُثبتة سابقة أو عبر الاستدلالات المنطقية. إضافة لذلك، تتحول الفرضيات إلى مُسلّمات (أو حقائق) عندما يتم إثباتها بشكل قاطع من خلال البحث العلمي والتجارب المتكررة، بحيث تصبح مقبولة على نطاق واسع ولا تحتاج إلى مزيد من الإثبات. ولإسقاط ما سبق بخصوص "الدراسة المنهجية"، فإن جرائم الكهنوتية وقفازاتها القذرة بحق الشعب اليمني تُعد من "المُسلّمات" المُثبتة تاريخيًا لقرون طويلة، وخداع ومخاتلة ومكر وخبث السلالية وكرهها لليمن أرضا وإنسانا وعدم انتمائها للأرض لا عرقيًا ولا فكريًا ولا وطنيًا "حقائق" ثابتة لقرون طويلة؛ فكيف يمكن وصف "الباحث" الذي يحاول تحويل تلك "المُسلّمات والحقائق" إلى فرضيات لاختبارها مجددًا، بواسطة القول بأن نشأة العصابة الكهنوتية السلالية مؤخرًا كانت عبارة عن ردة فعل لإنشاء مركز مذهبي آخر في إطار بيئتها، وأن مؤسس الجماعة كان صادقًا ما في قلبه على لسانه!. وبالتالي، النتائج الماثلة للعيان اليوم هي ما تثبت صحة الفرضيات السابقة أو عدمها، و"الباحث" المُتمكن هو الذي يقوم بعمل الهندسة العكسية لمعرفة كيف تم تضليله وصولًا لوضع افتراضات خاطئة سابقة، ولا يوجد "باحث أكاديمي" يتبع ما يسمى بـ "الدراسة المنهجية" ويقوم بتحويل "المُسلّمات والحقائق" إلى فرضيات لاختبارها مجددًا!.


أما "التثاقف" فأنه عملية اكتساب الفرد أو الجماعة لخصائص ثقافة أخرى من خلال التفاعل المباشر معها، ويتم عبرها تغيير الأفكار والقيم والمعتقدات مما يؤدي إلى تعزيز التنوع والقبول بالآخر. ولكن "الباحث" الذي أشار إلى "التثاقف" تناسى كليًا متطلبات بيئة التثاقف وعوامل نجاحها، وتجاهل أن هناك فرق بين تثاقف التنظير وتثاقف الواقع، وتغافل أن هناك فرق بين الواقعية والطوباوية؛ فكيف تتثاقف مع شخص يُهاجم أحفاد سبأ وحِميّر (القومية اليمنية) ويحرف بوصلة الاستنتاجات فيما يخصهم باستخدام منظور أيديولوجي ضيق، ويختلق المبررات لمؤسس الجماعة الكهنوتية ويبتكر مسوغات وأسباب لظهورها باستخدام مناظير خيالية واسعة، وكيف تتثاقف مع عصابة إجرامية وهي تضع البندقية على رأسك، وتلغم منزلك، وتنسف مستقبل أجيالك، وتنهب أرضك، وتستولي على سلطتك وثروتك؟!.


سابقًا، خرج أحد الباحثين الأكاديميين بأطروحاته المبهرة متحدثًا بأن شعار القومية اليمنية المتمثلة بـ "الوعل" يُعد رمزية وثنية وإحياء لعقيدة ما قبل الإسلام، وأن الاهتمام بخط "المسند" نوعًا من استبدال للغة القرآن وخروج على الدين الحنيف، وأن الاعتداد بالحضارة اليمنية القديمة والاعتزاز بالسبيئة الحِميّرية شيئًا من العودة للجاهلية والغلو والعنصرية، وأن "الأقيال" خرجوا عن الثوابت اليمنية الاجتماعية والثقافية، وأن "الأقيال" يعادوا شريحة مجتمعية كاملة رغم أن المشكلة في أسرة واحدة ويحاربوا كذلك الزيدية، وأن القومية اليمنية مآلها التفتت والزوال قبل ظهورها، مبررًا كلّما توصل إليه من نتائج مدهشة تحت حُجج "الموضوعية، والدراسة المنهجية، والتثاقف"!.


العجيب أن ذلك "الباحث" أزال كافة السياقات المرتبطة بشعار "الوعل"، وركز فقط على السياق الديني بأثرة القديم، متجاهلاً كافة السياقات السياسية والهوياتية والتاريخية والحضارية، وأن استدعائه اللحظي يشير صراحة إلى الحضارة التليدة الممتدة الذي حكم فيه أبناء الأرض أنفسهم بأنفسهم (بل وحكموا غيرهم) وأداروا ثرواتهم بذواتهم، وليس لـ رمزيتها أي ارتباط بالوثنية والدين لا من قريب ولا بعيد!. كما أن "الباحث" ترك كافة الدلالات المرتبطة بخط "المسند"، وركز فقط على جانب إزالة لغة القرآن، علمًا أن استدعاء خط "المسند" يُدلل على استعادة الهوية، والاعتزاز بالحضارة اليمنية القديمة نوعًا من إحياء الانتماء. أما إذا كان يقصد "الباحث" بأن الثوابت اليمنية الاجتماعية والثقافية مرتبطة بالعكفوية وأتباع الولاية والخضوع لكهنة الآل وأتباع الزيدية والقبول بالتكتل الثالث الذي يحصر المشكلة بأسرة كهنوتية واحدة فقط، فإنه لم يجانب الصواب عن خروج "الأقيال" عن تلك الثوابت المصطنعة المشينة، بل أنهم سوف يقتلعونها من جذورها!. كما أن "الباحث" الاجتماعي المُبتدئ يدرك بأن أقوى أداة أيدلوجية صلبة عرفتها البشرية حتى يومنا تتمثل بـ "القومية"، فكيف استنتج ذلك الباحث بأن تلك الأداة سوف تتفتت وتزول قبل ظهورها؛ علمًا بأن ذلك "الأكاديمي" سوف يرى صحة تنبأه من عدمه في قادم الأيام!.


وها هو اليوم يطل علينا "الأكاديمي" مجددًا بأطروحاته المدهشة، ليقول بأن مؤسس الجماعة الإجرامية الكهنوتية "حسين" كان يتسم بالوضوح والصراحة والذي في قلبه على لسانه (ناشف الرأس!)، وأنه كان يرفض إحلال المذهب الاثنى عشري ويسخر من زواج المتعة ويرفضه، وأن سبب نشأة الجماعة الكهنوتية مؤخرًا كانت ردة فعل على إنشاء مركز مذهبي مخالف في بيئة زيدية صرفة؛ ويجدد تأكيده بأنه أشار إلى ذلك في سياق مؤلفاته المنشورة سابقاً، ويبرر مرة أخرى كل تلك الاستنتاجات تحت مظلة "الموضوعية، والدراسة المنهجية، والتثاقف"!.


ذلك "الباحث الأكاديمي" الذي دقق بشدة وضيق على رمزية "الوعل" الدينية في سياق التاريخ القديم، هو نفسه الذي ركز على اتساع طيبة قلب مؤسس الجماعة السلالية، وهو نفسه الذي اختلق مبررات لأسباب نشأة الجماعة الكهنوتية مؤخرًا متجاوزًا الامتداد التاريخي لجرائم الكهنوتية السلالية بحق اليمنيين، وهو نفسه من تجاهل نتائج وضوح ملازم "ناشف الرأس" الماثلة للعيان في الواقع المُعاش من اللطميات والحُسينات والهوية الزينبية والثقافة الكارثية الدخيلة التي باتت تظهر تباعًا في مناطق سيطرة الجماعة الإجرامية!. ذلك "الباحث الأكاديمي" الذي يتحدث عن تقويم الظواهر الاجتماعية ودراسة الجماعات والأفراد بطرق منهجية علمية، لو عمل دراسة ميدانية في التسعينيات للقرى المجاورة لمؤسس الجماعة الكهنوتية "حسين"، لوجد أنه كان معسول اللسان حاله حال السلالية، ولوجد أنه كان يشتري ما فاض من مواد غذائية وخضروات مُعرضّة للتلف لتوزيعها على الفقراء والمحتاجين بتلك القرى بغرض كسب ولائهم، وأن تلك الأموال التي كان يشتري بها تلك المواد كانت مجهولة المصدر وبالعملة الصعبة (أي شبكات مالية كهنوتية سلالية)، ولو أعاد عمل دراسة ميدانية اليوم في نفس تلك المناطق، لوجد أن جميع أولئك البسطاء قد نالوا حتفهم دفاعًا عن سيدهم، ومدفونين في المقابر، أي ان ثمن تلك السلال الغذائية التالفة والرخيصة كلفتهم حياتهم (ضحايا بضاعة الكهنوتية)!. وبنفس المنطق عن دراسة تقويم ظواهر تغير الجماعات والأفراد، من تحدث بلسانه السلالي المعسول عن الدولة المدنية الحديثة والعدالة والمساواة هو نفسه من تحدث لاحقًا عن إيمانه المطلق بالولاية وحق كهنة الآل بالسلطة والثروة، وكذلك علماء الزيدية الذين وقعّوا سابقًا فتوى بأن الحكم للشعب (أي الشعب مالك السلطة ومصدرها عبر الانتخابات)، هم أنفسهم من قدموا فتوى لاحقًا بحق الولاية وكانوا ممن أسسوا ولاية الفقيه السرية، وهذا ما يؤكد بأن الدراسات الإنسانية لا يمكن أن تكون "موضوعية"، بل فيها حتمية الذاتية والتحيز سواءً للباحث أو عينة الدراسة!.


ختامًا، كاتب هذا المقال لا يتصف بـ "الموضوعية" ويدرك كليًا تحيزه تجاه أبناء جلدته من أحفاد سبأ وحِميّر، وعلى معرفة تامة بأن صفة التحيز طبيعة إنسانية لصيقة خصوصًا بالدراسات الإنسانية أو الكتابات الفكرية. نقول لذلك الباحث، ان النتيجة تحكم الإطار والأثر الماثل للعيان يؤكد صحة الفرضية من عدمها، وقد رأى الشعب اليمني من أقصاه إلى أقصاه طيبة قلب مؤسس الجماعة الإجرامية بشكل جلي اليوم (أي بعد ثلاثة عقود)!. إضافة لذلك، أن يأتي "باحث أكاديمي" بعد كل هذا الدمار والدماء ليتحدث عن طيبة المُجرم، ويختلق مبررات لسبب نشأة الجماعة الإجرامية دون أدنى احترام لشعب متضرر برُمَّته، فإن ذلك الباحث بحاجة ماسة إلى إعادة نظم ربطة عنقه وشدها بإحكام عليه، وكذلك إعادة نظم أفكاره!. ونختم القول، بأننا لم نعد اليوم في صدد الحديث عن "الموضوعية والدراسة المنهجية والتثاقف"، بل نحن في معركة وجودية مع الكهنوتية السلالية وقفازاتها القذرة؛ علمًا أن أحفاد سبأ وحِميّر (القومية اليمنية) ليس لهم أي علاقة بالصراعات المذهبية بمختلف أنواعها وأشكالها، ولا يهمهم الفعل وردة الفعل بين المذاهب، وما يهمهم اليوم هو استرجاع أرضهم من مخالب الكهنوتية واسترادا ثروتهم من بين فكي السلالية، ونيل حقهم في حكم أرضهم وإدارة ثروتهم؛ أليست تلك المطالب البسيطة تُعد ذروة سنام "الموضوعية"، ولب "الدراسة المنهجية"، ومادة دسمة "تثاقفية"؟!.